^ «اتهم مسؤول رفيع في الأمم المتحدة السلطات السورية بعدم تطبيق خطة المبعوث الأممي كوفي عنان بشكل كامل، بينما أعلن ناشطون معارضون عن سقوط تسعة قتلى في حماة برصاص القوات الحكومية”. تعكس هذه الصورة التي بثتها وسائل الإعلام جانباً مهماً من واقع الأوضاع في سوريا التي يبدو، كما يلوح في الأفق أنها قد تستمر لفترة أطول مما يتوقعها البعض لها. والمقصود هنا استمرار نظام بشار الأسد في الحكم، بغض النظر عن اهتزاز الأرض من تحت أقدامه، ودون التقليل من أي مكاسب تحققها القوى المعارضة لحكمه. تثير قدرة نظام بشار الأسد على الصمود والاستمرار، رغم تضافر جهود مجموعة من القوى الخارجية والداخلية ضده، وسعيها للإطاحة به، بغض النظر عن تضارب أهدافها، أو الخلفيات التي تقف وراء كل قوة منها، علامات استفهام كبيرة تخاطب تلك القوى، وتتحدى، موضوعياً، مدى جديتها في الإطاحة بالنظام وبناء نظام جديد على أنقاضه. بالمقابل يثبت استمرار نظام الأسد في الحكم وجود عناصر ذاتية وموضوعية تفسر هذه الحالة الاستثنائية في قائمة النتائج التي ولدتها الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية منذ الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في تونس، يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية: على الصعيد الداخلي، وعند الحديث عن مصادر القوة التي يستند لها الأسد، نجد أنه يستعين بعاملين أساسين في تثبيت أركان حكمه، الأول هو نفوذ اجتماعي متنام يغذيه “التعصب الطائفي” الذي يستمد قوته من تكاتف “علوي”، يرى في استمرار النظام على ما هو عليه، إبقاء على مكاسب طائفة أقلية، ستفقد كل امتيازاتها الاجتماعية والسياسية، فيما لو سقط النظام. هذه الفئة المتسلطة، نجحت على امتداد نصف قرن من السيطرة، أن تتغلغل في مؤسسات الدولة، وتزرع لأفرادها الكثير من المناصب في إداراتها، وعلى وجه الخصوص داخل صفوف المؤسسات العسكرية والأمنية، تسندها من خارج تلك الإدارات، قوى اقتصادية واجتماعية نمت، كالفطر، وعززت من مناطق نفوذها، على جسم المجتمع السوري، وفرضت سيطرتها عليه. هذا التسلط الفئوي يدرك “العلويون”، أكثر من غيرهم هشاشته، وتناقضه مع القوى الحيوية الأغلبية في المجتمع، ومن ثم استعداده للتهاوي فيما لو فقد القبضة الحديدية التي توفرها له مؤسسات الدولة وإداراتها، القائمة على سياسات التمييز لصالح تلك الفئة، وقمع كل محاولة للمس بها أو بمصالحها، ومناطق نفوذها. أما العامل الثاني، وعلى الصعيد الداخلي أيضاً، فهو ذلك النفوذ المتعاظم الذي تتمتع به الطائفة العلوية داخل المؤسسة العسكرية على وجه التحديد، وهي المستميتة اليوم في الدفاع عن نظام بشار الأسد، لأنه الوحيد الذي بوسعه الإبقاء على ذلك النفوذ غير الطبيعي الذي لم يعد في وسعها التضحية به. هذا التكاتف الطائفي الضيق الأفق داخل المؤسسة العسكرية، هو الذي يفسر استبسالها في الدفاع عن النظام، ووحشيتها في التعامل ليس مع من يرفع صوته معارضاً له، بل حتى من المواطنين العزل الواقفين على خطوط الحياد. هذه التركيبة الطائفية الانعزالية للجيش السوري، تختلف عن تلك الصفة الوطنية التي كان يتمتع بها الجيش المصري، الذي كان لعدم انحيازه لصالح نظام مبارك دور مؤثر في حسم الصراع لصالح القوى المعارضة هناك، كي ينتهي الأمر بعزل الرئيس المصري، وتطور الأوضاع في مصر في اتجاه مغاير لذلك الذي أخذته في سوريا. على الصعيد الداخلي، أيضاً، وبعيداً عن الأوراق التي بحوزة الأسد، هناك عدم الاتفاق الذي يصل إلى حالة التشظي، بين قوى المعارضة، التي بات يتحدث باسمها أكثر من تجمع سياسي، وأكثر من مجلس عسكري. هذا التمزق داخل صفوف المعارضة، يمد الأسد بحقنات الاستمرار من جهة، ويفقدها هي بعض نسبة عالية من الدعم الخارجي التي هي في أمس الحاجة إليه. ما هو أسوأ من ذلك، أن الخلافات الثانوية فيما بينها تسلقت درجات سلم أولوياتها، كي تتغلب، في مراحل معينة، على التناقض الرئيس بين تلك القوى مجتمعة ونظام الأسد، الذي نجح بالمقابل، وكما أشرنا في تقليص الخلافات داخل مؤسسات حكمه التي باتت “علوية” محضة، لصالح تناقضه مع القوى المعارضة له. أما على المستوى الخارجي، فهناك التحالف الصيني – الروسي، الذي لايزال، وعلى وجه الخصوص الروسي، يرى في نظام الأسد آخر معقل له في الشرق الأوسط، بعد سقوط نظامي مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا. هذا يفسر مواقف النظامين المعارضين في مجلس الأمن الدولي، لأي شكل من أشكال العقوبات ضد ذلك النظام، وتنسيقهما الثنائي معه. وتكشف الجولات المكوكية من المباحثات السورية - الروسية، والتي كان آخرها زيارة وزير الخارجية السوري إلى موسكو، الكثير من أوجه التنسيق والتضامن التي نتحدث عنها. يتكامل ذلك مع تذبذب واضح في الموقف الأوروبي الغربي، بما فيه الموقف الأمريكي الذي لاتزال حربه على النظام، تقف عند حدود الشجب اللفظي، والتنديد الإعلامي. ليس القصد هنا الدعوة إلى تدخل خارجي، بقدر ما هو حصر لعناصر السلب والإيجاب في معادلة تفسير استمرار الأسد في الحكم. فلو قارنا الموقف الغربي مما جرى في ليبيا، وتدخل قوات حلف الناتو العسكري المباشر للإطاحة بنظام القذافي، وتصريحات الشجب الخجول من المعسكر ذاته، عندما يتعلق الأمر بنظام بشار الأسد، بوسعنا تقدير التفاوت بين الموقفين، ومن ثم سرعة تهاوي نظام القذافي، وطول أمد صمود نظام الأسد. ولا يختلف الأمر عند الحديث عن الموقف العربي، الذي ينبغي ألا يقودنا الدعم المالي، إلى ما هو أبعد مما يمثله، عند قياس موازين القوى على أرض المعركة. فحتى اليوم، مازال بوسع النظام السوري الرهان على هشاشة الموقف العربي، في تصعيد معاركه العسكرية التي يشنها على المدن السورية. وعلى الصعيد الخارجي، من الخطأ إغفال العامل الإسرائيلي من المعادلة، الذي ليس هناك وضع أفضل يحقق له أهدافه من ذلك القائم على الحفاظ على جبهة الجولان صامتة، وانشغال دمشق بمعالجة مشكلاتها الداخلية، وهو ما يحصل اليوم في سوريا. مرة أخرى ينبغي عدم القفز إلى نتيجة مفادها ارتباط أي من أطراف النزاع القائم في سوريا اليوم بمشروع صهيوني، أو تحالف أي منها بشكل مباشر أو غير مباشر مع تل أبيب. وما لم يطرأ تغيير جذري على أي من تلك العوامل، ولصالح القوى المنادية بالتغيير، فسوف يواصل بشار في استثمار تلك العناصر لصالحه، وهي التي تفسر سر قدرته على الصمود في وجه تلك القوى، والاستمرار في الإمساك بمقاليد السلطة، وبإحكام أيضاً