احتفالًا بيوم الأمم المتحدة العالمي للغة العربيّة، اختار طوني كالدربانك من المجلس الثقافي البريطاني خمسة أعمال تعطي نظرة فريدة عن ثقافة العالم العربي وتراثه.
تكثر الأخبار عن العالم العربي هذه الأيام، معظمها مروّع، يتمّ تداوله في الصحافة أو عبر الإنترت، ويرسم صورةً هي غاية في الكآبة والتحيّز عن هذه المنطقة الواسعة جغرافيًّا والمتنوعة ثقافيًّا. فإذا أردتم سبر أغوار العالم العربي ومعاينة الوجه الآخر لثقافته وتراثه الغنيين، لا بدّ من التلذّذ في قراءة بعضٍ من أهم الكتب في الأدب العربي.
في ما يلي خمس عيّنات تسمح لكم بتذوّق القليل مما هو متاح في آفاق الأدب العربي الرحبة، وكلّها مترجمة إلى اللّغة الإنكليزية، فلا تضطرون إلى تعلّم العربية لقراءتها، بيد أنّكم قد ترغبون في تعلمها ما إن تقرؤوا هذه الأعمال.

"رسالة الغفران" لأبو العلاء المعري
عاش هذا المفكّر الحرّ الشهير والزاهد والإنساني والنباتي الملتزم في سوريا في القرن الحادي عشر. ومنذ مدة ليست ببعيدة، قُطع رأس تمثال له في مسقط رأسه في معرة النعمان، ربّما لأنّه تحدّى العقائد السائدة في عصره بشجاعة، إذ كان بمثابة فولتير في زمانه.
يقول أبو العلاء المعري "استوت في الضلالة الأديان"، فهو يعتبر أن أهل الأرض اثنان: "ذو عقل بلا دين، وآخر ديّن لا عقل له". ويعاين المعري في رسالة الغفران أعمال بعض الشعراء والمفكّرين الكبار الّذين سبقوه ويفنّد أفكارهم، كما يقارع آراءهم ويدحضها بفضل معرفته الواسعة وبلاغته، المقرونين بالتهكم اللاذع الذي يجيد، وينتقد نفرًا غير قليل من أوجه المعتقدات التقليدية السائدة. وفي إحدى كتاباته التي لا شك أنها كانت سبّاقة للكوميديا الإلهيّة لدانتي، يشدّ المعري رحاله في رحلة إلى الجنّة، حيث يلتقي بالشعراء الوثنيين، معاقري الخمر ومعاشري النساء، من فترة ما قبل الإسلام، ثمّ ينتقل إلى جهنّم فيلتقي بعلماء الدين.
ورغم أن أعمال المعري حُظرت في الجزائر سابقًا، وبعد حوالى ألف سنة على ولادته، قُطع رأس تمثاله في مسقط رأسه، ما زالت كتاباته تُقرأ على نطاق واسع في العالم العربي، ويعتبره الكثير من العرب أحد أعلام الأدب لديهم. كان للمعري أثر ضخم، لكن قلّة قليلة في الغرب الحديث تعرفه، لذا فنحن لا ندرك كم كان المعري سابقًا لزمانه.
نذكر أن النسخة الإنكليزية الأخيرة لـ"رسالة الغفران" (The Epistle of Forgiveness) حازت للتو على جائزة الشيخ حمد للترجمة.

معلّقة امرئ القيس
عاش امرؤ القيس، الذي يُعدّ أعظم شعراء العرب قاطبةً، في نجد قبل قرن من ظهور الإسلام. وتُعدّ معلّقته المثال الأنجح للشعر الشفوي الحي لعرب الصحراء، في زمن كانت اللغة العربية فيه نقية خالية من أي تأثير خارجي (كاللغة الإنكليزية في الملحمة الشعرية "بيولف" في نقائها الوثني قبل ظهور المسيحية).
كان امرؤ القيس ملمًا بالوصف، يصف الحيوانات والجبال والغيوم والليالي الظلماء المرصّعة بالنجوم وصفًا جميلًا ومتقنًا. وهو ملمّ بعقد المقارنات التي يستخدمها الشاعر لإضفاء صفات حيوان إلى آخر. فجواده "له أيطلا ظبى وساقا نعامة وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل"، وهو أول من شبّه عيني حبيبته بعيني الغزال.
وتُعرف معلّقته أيضًا بشهوانيتها. ففيها فصلٌ مفصّلٌ مكرّسٌ للنساء اللّواتي أحب وانفصل عنهنّ بسبب حياة الترحال، وبقي وحيدًا يتوق لملاقاتهنّ مجددًا. وفي فقرة شهيرة، يسرد امرؤ القيس لقاءً غراميًّا على كثيب، وعشيقته "مُهَفْهَفَـةٌ بَيْضَـاءُ غَيْرُ مُفَاضَــةٍ تَرَائِبُهَـا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَــلِ".
بقيت مواضيع امرئ القيس وأساليبه وتكويناته الشعرية في صلب التراث الشعري العربي، لا بل كانت سبّاقة للقصيدة الغنائية والسونيته الشهيرتين في الشعر الإنكليزي. فقد أتقن شيكسبير كتابة السونيته باللغة الإنكليزية، وكان الموريون قد اشتهروا بها وطوروها في الأندلس، وأدخلها التروبادور (الشعراء المتجولون) إلى فرنسا، لكن بدايات رحلة الألف عام هذه كانت مع امرئ القيس في صحاري نجد الموحشة في الجزيرة العربية.
وقد نقل عدّة مترجمين هذه القصيدة إلى اللّغة الإنكليزية، أولهم ويليام جونز في العام 1782، وصولًا إلى ترجمتي بول سميث وداسموند أوغرادي الحديثتين.

"النبي" لجبران خليل جبران
كتب جبران "النبي" أساسًا باللغة الإنكليزية، غير أن هذا الكتا-0ب يُعدّ من الأدب العربي. انتقل جبران، المتحدّر من عائلة لبنانية مسيحية فقيرة، للعيش في الولايات المتحدّة في القرن التاسع عشر. ويشكّل جبران إلى جانب أدباء عصره ما بات يُسمى بـ"مدرسة المهجر"، أو شعراء المهجر، الذين كتبوا أعمالهم باللغتين الإنكليزية والعربية.
يتألّف كتاب "النبي" من 26 مقالًا شعريًّا حول حياة الإنسان، ترويها شخصيّة صوفيّة تشدّ الرحال للانطلاق في رحلة. ويتجمّع حشدٌ حول "المصطفى" المتصوّف على رصيف الميناء ويستجيرون بحكمته في الحياة لسؤاله عن الحب والمال والأولاد والعمل والملابس. ويجيب المصطفى من منظور روحي وفلسفي عن الحياة، اجتذب قرّاءً من حول العالم مذ صدر الكتاب للمرّة الأولى في العام 1923. ويقول النبي: "أولادكم ليسوا لكم، إنّهم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها"، ورغم أن هذه الكلمات كُتبت أساسًا باللغة الإنكليزية، لا شك أن الاصطلاح فيها عربي بحت. ويوصي النبي أهله قائلًا: "أحبّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، لتكن المحبة بحرًا متموجًا بين شواطئ نفوسكم".
تتجاوز هذه التأمّلات الجميلة والعذبة والقويّة في آن حدود الثقافة الواحدة، ولهذا السبب تُرجم "النبي" إلى 40 لغة وهو واحد من الأعمال الأكثر مبيعًا على الإطلاق.

"ذات" لصنع الله ابراهيم
ولد صنع الله في القاهرة، وأصبح ماركسيًّا في شبابه، وبسبب آرائه تلك أمضى عدة أعوام في السجن في ستينيات القرن المنصرم. تحكي روايته "ذات" قصّة مصر الحديثة في عهد الرؤساء الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك من منظور البطلة "ذات". وتبدأ الرواية من التفاؤل الذي ساد في السنوات الأولى بعد الثورة، لتنتقل بعدها للحديث عن تحول مصر إلى دولة رأسمالية بالكامل وتفشي الفساد فيها في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم.
كل فصل من فصول الرواية المنحوتة بحرفية، والتي تخبرنا عن حياة "ذات" وزواجها وعملها وحياتها الاجتماعية، تتخلله مجموعةٌ من قصاصات الصحف وعناوين الصور التي تفسّر الأحداث السياسية والاقتصادية اليومية إذ ذاك، وما تشمله من فساد وفضائح مالية وتعذيب ودين خارجي. وتفضح هذه القصاصات عنف الحكام المبتذل وطمع المغتنين الجدد وغباءهم.
وتسرد هذه الرواية المؤثّرة، والمضحكة-المبكية أحيانًا، صراعات "ذات"، تلك المرأة المحترمة والصريحة والّتي ذاقت طعم المعاناة طويلًا، إذ تختبر تقلّبات الحياة المعاصرة والحداثة والنزعة الاستهلاكية والسراب الدائم الحضور للاغتناء الجديد.
وتقدّم الرواية نظرةً هامة عمّا جرى في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وتسهب في وصف كيف تبددت كل الأحلام. لا بد لمن يرغب في فهم سبب اندلاع الربيع العربي وسبب تحوله سريعًا إلى شتاء حالك في حالات شتى من قراءة هذه الرواية.

"أخبار مجنون ليلى" لقاسم حداد
لم ينه قاسم حداد، المعروف عمومًا على أنّه أعظم شاعر خليجي حيّ، المرحلة الثانوية من دراسته. فقد ولد في البحرين في العام 1948، وترك التعليم النظامي باكرًا للمساهمة في زيادة مدخول عائلته. قاسم حداد كاتب وثائر في آن، حاله حال صنع الله ابراهيم، وقد سُجن في الخمسينيات بسبب آرائه السياسية.
مجنون ليلى شخصيّة أسطوريّة في الأدب العربي، معروفة أيضًا في الأدب الفارسي والباكستاني والأفغاني. وترمز الشخصية إلى رجل جنّ من شدة عشقه لليلى. وشكّلت حكاية "مجنون ليلى"، التي تسرد قصة العشاق المنكوبين والقبائل المتناحرة، موضوعًا أساسيًّا في الأدب وفن الأداء العربيين منذ القرن التاسع، كما أنها أضحت الموضوع المفضّل لدى الشعراء الصوفيين الّذين رؤوا في حبّ مجنون ليلى الجارف وفي استحالة الوصول إلى ليلى رمزًا لتوق المؤمن إلى الله. وقد ألهمت القصة أيضًا إريك كلابتون لكتابة أغنية.
تعيد رواية قاسم إحياء هذه القصّة القديمة وتجدّدها بعيدًا عن سياقها القبلي وخلفيتها المتزمتة. ففي نسخة قاسم من القصة، يشبع العاشقان توقهما لبعضهما بعضًا من دون أن تكبّلهما القيود الاجتماعية والأخلاقية، وفيها أيضًا ترتجف أطراف العاشقين المتيّمين اللذين يمجّدان متعة الحب المادي غير المكبوت لبعضهما بعضًا. كذلك، فإنّ النصّ مكتوب بأسلوب عربي جماليّ فصيح مشبّع بالسجع. ولكن في الوقت نفسه فإن مواضيع الروياة حديثة وثورية بوضوح.
وتتضمّن ترجمة "مجنون ليلى" الحديثة لفريال غزول وجون فرلندن مختارات تستحق القراءة من أشعار قاسم المتقنة والجازمة والمتسمة بنظرة السياسية ثاقبة.

لماذا تعتبر الترجمة ضروريّةً للتفاهم الثقافي
إن أربعة من هذه الأعمال وأخرى من الأدب العربي مُتاحة بفضل جهود المترجمين الّذين يضطلعون بمهمة تذليل الحواجز اللغوية أمام الأعمال الأدبية. فالترجمة حرفة بفضلها يغدو التفاعل الثقافي ممكنًا، وهي الأرضية الأساس التي يتعمّق بها التفاهم بين الناس، وذلك بفضل الآفاق التي تفتحها والسعادة التي تولّدها.
إذا سلّمنا بأن الصحافة والتاريخ يرويان الأحداث اليومية التي تعيشها الأمم - أي السرديات السطحية وحياة اليقظة – فلا بد أن الأدب هو الّذي يعبّر عن أحلام الأمم ومخاوفها. فمن خلال قراءة الأعمال الأدبيّة المنتمية إلى ثقافات أخرى، يتضح لنا كم تتشابه الدوافع والحوافز والانفعالات واللذات التي تحفّزنا جميعًا. كم لجون كيتس وامرؤ القيس من أمور مشتركة، الحق والحب والجمال...