^   عندما يتكرر المشهد اليوم، لكن بعد استبدال جميع الأسماء المصنفة على أنها «إرهابية» بتنظيم واحد هو «القاعدة»، الذي اكتسب هو الآخر أسماء متعددة، مثل «أنصار الشريعة» في اليمن و»الجهاد» في العراق.. إلخ، فلا بد لنا من التوقف الحذر ومراقبة المشهد من زواياه المتعددة وتشخيص مختلف مكوناته وفهم حركتها في نطاق دورة الصراعات الدولية العامة المحتدمة من جانب، وانعكاساتها على واقع تطور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط واتجاه بوصلة إبحارها من جانب آخر. ليس القصد من الاستذكار التاريخي هنا إجراء مقاربة سياسية بين «تنظيم القاعدة» مع قوى «الثورة الفلسطينية»، ولا الدفاع عن أية أعمال «إرهابية» نفذها تنظيم القاعدة واعترف بمسؤوليته عنها، بقدر ما أردنا أن نلفت النظر إلى أن أجهزة الاستخبارات الدولية، وفي المقدمة منها الغربية، لا تتردد عن إلصاق مثل هذه التهم بمثل تلك التنظيمات لتحقيق مجموعة من الأهداف التي يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية: 1. تمويه، أو توفير العوامل المساعدة التي تعين تلك الأجهزة على التنصل من مسؤوليتها عن أية عمليات إرهابية تقوم هي بالتخطيط لها أو تنفيذها، في إطار تسوية الحسابات القائمة بينها، سواء بين الأجهزة المختلفة في الساحة الداخلية التابعة للدولة المعنية بذاتها، أو بين بعضها البعض على المستوى الخارجي. وللتدليل على ذلك بوسعنا استرجاع حادثة قصف الطيران العسكري الإسرائيلي للباخرة الأمريكية «ليبرتي» الراسية قبالة الشواطئ المصرية في أعقاب حرب يونيو 1967 التي نشبت حينها بين العرب وإسرائيل، والتي سلط الضوء على حقيقتها كتاب بعنوان «كتلة أسرار»، الذي يؤكد كما تكشف ملخصات لذلك الكتاب أن التضارب في المصالح بين أجهزة الأمن القومي الأمريكية والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أو عدم التنسيق، كانا وراء قصف إسرائيل لتلك الباخرة الاستخباراتية الأمريكية وإغراقها. الأمر ذاته يتكرر عند تقصي الحقائق حول تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر 2001. فقد بدأت بعض الاجتهادات الموثقة التي تشير بأصابع الاتهام إلى صراع بين الأجهزة الاستخباراتية في الولايات المتحدة، ونشر العديد منها مثل مقالة د. ولتر ديفس المعنونة (11 سبتمبر وإدارة بوش.. أدلة دامغة للتواطؤ). بل برزت اليوم وفي عقر دار الولايات المتحدة حركات مثل «حركة من أجل معرفة حقيقة 11 سبتمبر» التي يقودها الأستاذ الجامعي الأمريكي دايفيد راي غريفين، التي تشكك في الرواية الرسمية الأمريكية وتطالب بكشف الحقائق التي تظهر الجهات التي تقف وراء تلك التفجيرات. 2. الربط في أذهان العالم بين أي شكل من أشكال المعارضة والإرهاب، ومن ثم النجاح في حرمان أية حركة وطنية جنينية صالحة من ممارسة نضالاتها العلنية الشرعية التي تبيحها لها أنظمة، ودساتير البلاد التي تنشط فيها، إما باختراقها وحرف تلك النضالات العلنية عن طابعها السلمي إلى أنشطة تسهل تصنيفها في فئات الإرهاب بعد زرع عناصر استخباراتية في صفوفها، وتسهيل مهمة وصول تلك العناصر إلى المواقع القيادية التي تسهل عمليات حرفها عن طريق نضالتها السلمية المحضة إلى تورطها في بعض العمليات الإرهابية الاستثنائية، وإما بشن حرب إعلامية عليها وإلصاق التهم بها من أجل تمهيد الطريق الذي يسهل ومن ثم يبيح الانقضاض عليها وتصفيتها. 3. توفير بيئة خصبة لاستفزاز الرأي العالمي في مرحلة مبكرة من بدء الشروع في تهيئته لتقبل أية عملية انتقامية تقوم بها تلك الدوائر ضد حركات التحرير الوطنية، أو أي من القوى المعارضة لمشروعاتها الدولية الضخمة، والتي يمكن أن تعيق تنفيذ تلك المشروعات التي تدر مئات المليارات من الدولارات على تلك الدول أو المؤسسات المالية والصناعية التابعة لها. وقد ساعد تقدم التكنولوجيا التي وضعت بتصرف محطات البث الفضائية قنوات سريعة للوصول لمصادر الأخبار والتحكم في إعادة بثها والسيطرة على تفكير المشاهد ومن ثم تجريده، ولو بشكل مؤقت، من قدراته الموضوعية على التحليل السليم غير المنفعل. وتضاعفت قدرة الأجهزة الاستخباراتية في هذا الاتجاه بعد ثورة الاتصالات والمعلومات ومخرجاتها، وفي المقدمة منها شبكات التواصل الاجتماعي التي بات لها دوراً مميزاً في صنع الأحدث بعد أن كان دور الإعلام مقتصراً على تغطيتها. 4. زرع الرعب في الدوائر الحاكمة في البلدان الصغيرة الحليفة لتلك القوى العظمى تمهيداً لتجريدها من حقها في صنع سياستها بشكل مستقل عن الضغوط التي تمارسها أجهزة القوى العظمى، الأمر الذي يبيح لهذه الأخيرة فرض شروطها السياسية والتجارية المجحفة بحق أولئك الحلفاء، الذين يجدون أنفسهم في حالات معينة مسلوبي الإرادة ويخضعون لتلك الفزاعات الوهمية مثل فزاعة «تنظيم القاعدة» المتربصة بها، وينجرون قسراً للقبول بتلك الشروط، وإسباغ الشرعية عليها وإطلاق يد القوى العظمى للتلاعب بها وتجييرها لصالحها، حتى وإن كانت ضد مصالح البلدان الحليفة. كل ذلك بوسعه أن يعين من يريد على فهم الدور «الحربي» أو «العسكري» الذي بات يقوم به الإعلام في هذا العصر، والنتائج التي تتمخض عنه القراءة الساذجة غير الخبيرة لكل ما تحمله لنا وسائل الإعلام، دون بذل أية جهود للتأكد من مصادر الخبر أو تقصي الحقائق التي لا بد أن تسبق اتخاذ أي قرار بناء على مكوناته. مرة أخرى ليس القصد هنا تبرئة ذمة «تنظيم القاعدة» أو إسباغ الشرعية أو التبرير لأي من العمليات التي اعترف قيامه بها، لكن بالمقابل لا بد أيضا من التحذير من الانسياق الأعمى وراء كل ما تروج له أجهزة إعلام الدول العظمى، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة وتصديقه، وبناء الإستراتيجيات التي تمس مستقبل بلدان أو كتل سياسية بكاملها على معلومات مزيفة جرى إعدادها في مطابخ أجهزة تلك الدول. توخي الحذر وأخذ الحيطة، مهمتان لا يمكن تحقيقهما في غياب مؤسسات استخباراتية وطنية تتوفر بحوزتها الإمكانات المادية والبشرية القادرة على تحديد مصادر استقاء الأخبار والتغطيات الإعلامية، وتمحيص ما يتلقى منها، وقراءته بشكل موضوعي صحيح، والخروج في ضوء كل ذلك بالقرارات الصائبة التي لا تكون ضحية الفزاعات من جانب ولا تستهين بالأخطار المحدقة بها من جانب آخر. متى ما تم ذلك بوسع الدول والتكتلات السياسية الصغيرة التخلص من كثير من الضغوطات التي تمارسها ضدها الدول العظمى، باختراع العديد من الفزاعات ليس «تنظيم القاعدة» سوى واحد بين العديد منها.