غالباً ما يثار مفهوم التكنوقراط خلال فترات الانتخابات البرلمانية في مختلف الدول، وسبب ذلك أن الناخبين تكون أمامهم العديد من الخيارات التي يجب أن يحسموا قراراتهم السياسية تجاهها في الاستحقاق الانتخابي. وأصبح مفهوم التكنوقراط لا يسمع إلا خلال فترات الانتخابات لأنها صفة يعتقد جانب من كبير الناخبين أنها جيدة، وتعكس الكفاءة لدى المترشحين أنفسهم. فالتكنوقراط كمفهوم سياسي يجب فهمه جيداً لأنه أكبر من أن يشاع استخدامه فترة الانتخابات فقط أو أن يستخدم لوصف بعض الأشخاص بأنهم خبراء أو أصحاب كفاءات. ظهر هذا المفهوم في الفكر السياسي الغربي من كلمة التكنوقراطية ذات الأصل اليوناني، ويقصد بها سلطة الفنيين أو أصحاب الخبرات الاحترافية والعلماء أيضاً. وعندما ظهر هذا المصطلح كان الهدف منه كيفية تطوير أداء الحكومات في الدول لتكون أكثر كفاءة وفاعليةً، وأكثر إنتاجاً وقدرة على إدارة شؤون الدولة وتطوير مختلف قطاعاتها، كما كانت هناك حاجة لظهور العديد من النظريات والأفكار السياسية التي يمكن أن تساعد الحكومات والتجارب السياسية على تحقيق مثل هذا الهدف. فظهرت فكرة التكنوقراطية التي تعتمد بشكل رئيس على إدخال مجموعة من النخب المثقفة وأصحاب الخبرات المتخصصة والعلماء في الحكومات لإدارة شؤون الدولة. ومن الناحية التاريخية فإن التاريخ السياسي يشير لاستخدام هذا المصطلح في الممارسات السياسية منذ عام 1932 وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظهرت العديد من الدعوات التي كانت تطالب بتفعيل دور المتخصصين وتمكينهم سياسياً، نتيجة التقدم التكنولوجي الذي أخذ بالنمو آنذاك في الولايات المتحدة. وكانت الفكرة الرئيسة من ظهور حركة التكنوقراطية في أمريكا وجود قناعة بعدم جدوى الساسة في إدارة بعض الشؤون المتخصصة للدولة، على سبيل المثال لا يمكن أن تدار الشؤون الاقتصادية للدولة من خلال سياسيين، بل يجب أن تدار من خلال رجال الاقتصاد ورجال الأعمال. وكذلك الحال بالنسبة لقطاعات مثل الصناعة التي يجب أن تدار من قبل المهندسين.. إلخ. تطور هذا المصطلح بشكل كبير خلال القرن العشرين، وتحديداً في النصف الثاني منه حتى تحوّل إلى صفة سياسية تستخدم لوصف تركيبة الحكومات والبرلمانات في العالم. وصار يقصد به فئات العلماء، والمهندسين، وأصحاب التخصصات التقنية الأخرى مثل الكمبيوتر والطب وغيرهم. أما الاستخدام الحالي لمفهوم التكنوقراط يقصد به جميع أصحاب الخبرات المتخصصة عندما يتولون مناصب سياسية سواءً في السلطة التنفيذية «الحكومة» أو السلطة التشريعية «البرلمان»، والمجالس البلدية. وأصبح المفهوم منتشراً عالمياً، وأصبحت الدول تراقب بعضها بعضاً لتتعرف على نسبة التكنوقراط في تشكيلات الحكومات الجديدة خلال فترات الانتخابات التشريعية. ومن الأهمية هنا الحديث عن الجدل الواسع الذي يظهر عادة عندما يتم الحديث عن التكنوقراط، لأن هناك ثلاث مدارس في هذا الصدد: ـ المدرسة الأولى: ترى ضرورة اعتماد الدول في حكوماتها وسلطاتها التشريعية «البرلمانات» على التكنوقراط. وتبرر وجهة نظرها بأنهم الأكثر كفاءة، والأكثر قدرة على إدارة شؤون الدولة من السياسيين الذين يتميزون بالانشغال بالسياسة على حساب شؤون الدولة الأساسية، فضلاً عن اهتمامهم بالصراع السياسي مع خصومهم السياسيين دائماً حول النفوذ وتحقيق الأجندة والمكاسب. ـ المدرسة الثانية: ترى ضرورة إبعاد التكنوقراط عن السياسة، والحد من إشراكهم في الحكومات والبرلمانات. وتفسير وجهة النظر هذه أن دخول التكنوقراط في السياسة سيؤدي لانشغالهم بأمور أخرى غير تلك التي تخصصوا لإدارتها وتطويرها مثل البحث والتطوير. وبالتالي ستخسر الدولة خبراته كممارس للمهنة التي سيبتعد عنها ولن يكون له دور في تطويرها نتيجة انشغاله بالسياسة. ـ المدرسة الثالثة: تعتمد على الواقعية السياسية، لأنها ترى أهمية كل من الساسة والتكنوقراط في أي دولة باعتبار كل طرف منهما يكمل الآخر، ويعزز من جهود التكامل السياسي. ووفقاً لهذه المدرسة يجب إشراك الساسة والتكنوقراط معاً في أي تشكيل للحكومة، وكذلك الحال بالنسبة للانتخابات التشريعية. الفكرة من المزاوجة بين الطرفين هي لأن إدارة شؤون الدولة بحاجة للسياسي الذي يفهم طبيعة العملية السياسية والصراعات وإدارة العلاقات الداخلية والخارجية التي قد يجهلها التكنوقراط أنفسهم. في المقابل فإن إدارة شؤون الدولة بحاجة إلى جهود وخبرات التكنوقراط التي يجب الاستفادة منها في إدارة وتطوير بعض القطاعات التي تحتاج لكفاءات متخصصة في مجالات معينة. وعلى المستوى المحلي يلاحظ أن إدارة شؤون الدولة في مملكة البحرين اعتمدت منذ بداية المشروع الإصلاحي لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى على فكرة المدرسة الثالثة التي ترى ضرورة المزاوجة بين السياسيين والتكنوقراط في إدارة شؤون الدولة، لذلك يلاحظ تعاقب الكثير من الخبرات المتخصصة على التشكيلة الحكومية التي تغيّرت عدة مرات وفقاً لما ينص عليه الدستور منذ عام 2002 لتضم السياسيين وفي الوقت نفسه العديد من الخبرات المتخصصة في قطاعات متنوعة يمكن الاستفادة منها في إدارة شؤون الدولة. معهد البحرين للتنمية السياسية