بقلم : د. عبدالستار الراوي
كلما أوشكت المسافة بين السلاح والحوار تضيق حلقاتها، وتصل إلى غابة النار، تعود اللعبة القديمة الجديدة مرة أخرى بين واشنطن وطهران، يتلهيان معاً في حلبة المراوغة كما (توم أند جيري) على قاعدة (لا غالب فيها ولا مغلوب).. تلك هي سياسة المصالح، لا مكان فيها للعواطف الدافئة، ولا وجود فيها لقيم بعينها، إنها لعبة الرمال المتحركة تبدأ وتنتهي من ثقافة السلطة وتقاليدها الراسخة، وبقدر ما تفضي السياسات الذرائعية منزوعة القيم، إلى الهدنة المؤقتة، فإنها بالقوة نفسها قد تمضي إلى الحرب الطاحنة، فالرقص السياسي على الحبال قد يكون مغامرة في كتاب العقلانية الرشيدة، لكنه في لوحة المشاريع الأمبريالية الأطلسية وولاية الفقيه الأممية يقفان على قاعدة متقاربة وهي السباحة في شواطئ الشعوب البعيدة. كلاهما طهران وواشنطن يبغي صيداً، والاثنان يؤمنان بنظرية المجال الحيوي، ويسعى كل منهما إلى أن يجعل حربه تدور رحاها على أراضي الأمم الأخرى. الجمهورية الإسلامية بمهارتها السياسية قد أبدت استعدادها للتعاون مع مجموعة الدول (5+1) بحيث علقت نشاطها النووي، لكنها عادت مرة أخرى، كما وقّعت على البرتوكول الإضافي بصفة مؤقتة قبل أن يصوت عليه مجلس الشورى، ولكنها تجاوزته، وبعد ذلك تقرر أن تقدم إيران ضمانات ملموسة إلى الوكالة الدولية بأنها لا تسعى إلى إنتاج السلاح النووي، وفي المقابل تقرر أن تمنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمانات جادة أن تُخرِج ملف إيران من جدول أعمال مجلس حكام الوكالة وتعيدها إلى مساره الطبيعي، إلا أن الشكوك التي ساورت الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في اجتماع لندن دفعها إلى أن تطلب من طهران تعليق جميع أنشطتها النووية. استئناف البرنامج وجابه المرشد الأعلى السيد علي خامنئي الطلب الأوروبي برد مباشر وأصدر أمره باستئناف النشاط النووي. وعقب استئناف النشاط في مجمع (UCF) بأصفهان، وهو أمر زاد من حدة الخلاف بين الطرفين، وتسبب في فقدان ثقة الترويكا بالجمهورية الإسلامية، وطوال السنوات الثلاث الأخيرة كانت الحرب الناعمة بين الجانبين مفتوحة بجميع صفحاتها الاستخبارية والإعلامية والإلكترونية، وأوشكت خلال الأسابيع الأخيرة من هذا العام أن تنتقل إلى الميدان المسلح، وفي اللحظة القلقة جاء لقاء أسطنبول محطة أخرى من محطات ولاية الفقيه النووية. الرابع عشر من أبريل 2012 كان يوماً مشهوداً في تاريخ ولاية الفقيه النووية، بعد أن منحت فرصة (الوقت الضائع) ما بين الحرب والسلام، بعد أن جرى تسريب نبأ ضربة إسرائيلية مفترضة في الأسبوع الثاني من أبريل، فجاءت مفاوضات أسطنبول، مع ممثلي الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن) التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى (ألمانيا) محاولة لتقرير مصير البرنامج النووي الإيراني وعشية انعقاد جولة المفاوضات النووية مع إيران، كثفت مراكز الأبحاث الأمريكية جهودها لتناول المسألة، من جوانب عدة، لا سيما مع تراجع لغة قرع طبول الحرب، إما بشن هجوم أمريكي مباشر على إيران أو بالإيعاز إلى “إسرائيل” أداء المهمة، كما يطالب الصقور والمحافظون على السواء. انصبت الجهود على ما يمكن أن تسفر عنه جولة المفاوضات والآفاق التي تنتظرها عند نجاحها، كما لوحظ أن الخطاب السياسي ابتعد عن الإشارة إلى “حتمية فشل المفاوضات”. اللافت في الأمر هو تناول مسألة العقوبات الاقتصادية على إيران وتداعياتها على الاقتصاديات الأوروبية، لا سيما في اليونان، وبوادر انهيار اقتصاديات أوروبية أخرى مما يتناقض مع السياسة الأمريكية المعلنة نحو إيران. المفاوضات المحاصرة بالشكوك والأسئلة كانت تبحث عن جواب شاف يعيد السيوف إلى أغمادها ولو إلى حين، وبعثت الجمهورية الإسلامية بوفد مجهز بالبيانات الرقمية وبالوثائق الفنية وحملت الحقائب الدبلوماسية عدداً من الأفكار والمقترحات والبدائل، والأهم من هذه الملفات كلها، تسلح الوفد بفتوى المرشد الأعلى التي قضت بعدم مشروعية السلاح النووي، وأن طهران مصممة على إخلاء المنطقة من أسلحة التدمير الشامل، وأنها مع التنمية وازدهار المجتمعات. وكانت الورقة الإيرانية التي عرضها الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي على طاولة المباحثات، محاولة لإطفاء الحرائق ولتجنب حافة الهاوية، لذلك كان بوابة أسطنبول معركة دبلوماسية أخرى، حرصت طهران على إبقائها مشرعة لجولة تالية في بغداد. الأولوية الإيرانية في مباحثات العاصمة التركية هي تحقيق التواصل الناعم مع الخمسة الكبار والعمل لإقامة رأس جسر لعبور الأزمة الراهنة، يخفض من مستوى التوترات القائمة، فكان لا بد من الخروج من عنق الزجاجة الأورو أمريكية، لنزع دواعي الحرب، برفع شعارات التهدئة بالتركيز على سلمية المشروع النووي، فبادر القادة الإيرانيون قبيل انعقاد مفاوضات أسطنبول إلى عقد سلسلة من المؤتمرات الصحافية حملت إشارات سياسية إيجابية، بعد أن تم توزيع الأدوار فتحدث الناطق باسم الحكومة، وأدلى وزير الخارجية بتصريح، أعقبه الأمين العام لمجلس الأمن القومي سعيد جليلي الذي أكد أن الوفد الإيراني سيشارك في المفاوضات باقتراحات جديدة ونأمل أن تدخل الدول (5+1) الحوار بنهج بناء. المفاوضات مع مجموعة 5+1 لذلك كان ضمان نجاح المفاوضات مع مجموعة (5+1) هي المهمة العاجلة للوفد الإيراني، وبخلاف ذلك، فإن العمل العسكري ضد إيران سيكون الخيار الأكثر ترجيحاً، فلا ينبغي لأحد أن يفاجأ، فعلى مدى الأعوام العشرة الماضية، تم اختراع نوع جديد من الحروب: حرب مصممة لمنع دولة ما من الحصول على الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل. ووصفت مفاوضات أسطنبول بأنها (حرب نزع سلاح) كما حدث للعراق في عام 2003 فكانت العدوان بمنزلة أول حرب من “حروب نزع السلاح”، وكان الهدف منها دعوى تدمير المخزون من أسلحة الدمار الشامل ومرافق إنتاجها لدى العراق. فيما تبين لاحقاً أنها واحدة من خرافات الفبركة الاستخبارية، بطبيعة الحال لم يتم العثور على أي من هذه الأسلحة أو مرافق إنتاجها، كما تبين أن الحرب لم تكن أكثر من ممارسة لنوع دموي من الأكاذيب الحمقاء والعبث الوضيع. وتوضح وضاعة التجربة الأمريكية أنها واحدة من أعظم مواطن الخلل في العقل السياسي الأمريكي، باستخدام القوة كأداة لنزع السلاح. بطريقة الكاوبوي الهوليودي، الفاقد لأي سند قانوني أو تفويض أممي. وعلى الرغم من أن غزو العراق كان وسيظل كارثة بالمقاييس كلها، وأن اللعنة الأبدية ستطارد مجرمي الحرب والمتسببين في ويلاتها فإن السياسة الأمريكية التي أسست لهذا العدوان ظلت باقية في منأى عن المساءلة القانونية، ويبدو حتى الآن أنها قد تفلت بجرائمها. مؤتمر اسطنبول حرب نزع سلاح أخرى تتشكل، وهذه المرة ضد إيران، ومرة أخرى لا يستطيع المراقب أن يصف المعلومات الاستخباراتية سوى أنها غامضة حتى الآن، وهناك الكثير من الأحاديث عن “خطوط حمراء” بعض الخطوات الفنية أو غيرها من الخطوات التي قد تتخذها إيران لتحويل الوقود النووي إلى برنامج لإنتاج القنبلة النووية لا يجب تجاوزها. باختصار: كيف نتأكد أن خطاً أحمر تم تجاوزه بالفعل؟ لا أحد يدري، ولا أحد يفصح، ولكن يبدو أن الاختيار بين الحرب والسلام يتوقف على مثل هذه التعريفات الغامضة. ولكن على الرغم من أن الرئيس باراك أوباما قال في حديثه عن إيران: “ الخيارات كلها مطروحة على الطاولة”، فإن الاحتلال ليس من بين هذه الخيارات، وفقد الشعب الأمريكي شهيته لاحتلال بلدان الشرق الأوسط، وهذا يعني أن المتاح هو القوة الجوية فقط، ولكن القوة الجوية وحدها غير قادرة على عرقلة البرنامج النووي الإيراني لأكثر من عام واحد أو عامين. إن ما قد يسفر عنه الهجوم الجوي كله هو دفع إيران إلى إطلاق برنامج مكثف لتحقيق هذه الغاية وهي امتلاك السلاح النووي. إن الهدف من حروب نزع السلاح يتلخص في منع انتشار الأسلحة النووية: محلياً وإقليمياً، وامتلاك إيران للأسلحة النووية يشكل أحد المسارات إلى انتشار الأسلحة النووية، ولكن الحرب التي ترمي إلى منع إيران من الحصول على الأسلحة النووية من المحتمل أن تؤدي إلى مسار أسرع وأكثر تأكيداً إلى المقصد نفسه. ربما من حسن حظ إيران، أن لا يزال هناك سبيل آخر للخروج من هذه المعضلة. لقد أعلن أوباما أن حصول إيران على ترسانة ذرية “أمر غير مقبول”. فيما أكّد المرشد الأعلى علي خامنئي من جانبه “إن امتلاك مثل هذه الأسلحة خطيئة، فضلاً عن كونها (بلا جدوى) ومؤذية وخطرة”، أي أن الزعيمين متفقان. وهنا قد يكون الأساس قائماً لبناء الاتفاق المأمول. وسبق للسيد الخميني أن أصدر فتوى بتحريم (المشروع النووي) لكن الجمهورية الإسلامية تناست هذه الفتوى أو تجاوزتها بمجرد رحيله عام 1989 لتعود إلى إحياء برنامجها النووي، فالسياسة دين والدين سياسة!! إن أس الخلاف يدور حول مسألة تخصيب اليورانيوم، وهو ما أصرت مجموعة “الدول 5+1” حتى الآن على أن إيران علقته، ولو مؤقتاً. إن إيران تدعي الحق في تخصيب اليورانيوم وفقاً لأحكام معاهدة منع الانتشار النووي، وترد مجموعة “الدول الخمس الدائمة + 1” أن إيران فقدت ذلك الحق عندما أخفت برنامجها النووي عن الهيئة الدولة للطاقة الذرية، التي أعلنت أن إيران لا تمتثل لمعاهدة منع الانتشار النووي، وهناك من اقترح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستطالب بتفكيك منشأة تخصيب اليورانيوم في معقل جبل فوردو، ولكن جوهر الصفقة يكمن في السماح لإيران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم للأغراض المدنية، في مقابل الإفصاح الكامل عن برامجها كلها، بما في ذلك البرامج المخصصة لأبحاث الأسلحة النووية. ولتيسير العملية، اقترح بيير غولدشميت، المدير العام الأسبق للهيئة الدولية للطاقة الذرية “فترة سماح لا تعاقب فيها إيران إذا كشفت طواعية عن وجود مواد أو أنشطة نووية غير معلن عنها، و/ أو اعترفت بأي انتهاكات سابقة لمعاهدة منع الانتشار النووي أو لاتفاق ضماناتها”. للحفاظ على سرية تطوير برامج مشروعها النووي لجأت إيران إلى لعبة استباق الزمن وكسب الوقت فحاولت تضليل الوكالة الدولية من جانب ومماطلة الدول الخمس الدائمة +1 وهو ما جعل الشبهات تتراكم حول نوايا طهران وحول طبيعة مشروعها النووي، وجاء اللقاء الأخير بين الجانبين بعد انقطاع طويل دام 15 شهراً، تفاقمت فيه الخلافات إلى نقطة اللاعودة، وأوشك العد التنازلي لساعة الصفر أن يبدأ للاصطدام المسلح، وسط هذه الأجواء الملتهبة التأم الطرفان حول طاولة المفاوضات التي وصفها المراقبون بـ(لحظة الخروج من رقعة النار). معطيات وتداعيات مباحثات اسطنبول: أولاً: إيران 1- يرى القادة الإيرانيون أن اجتماع أسطنبول (14/4/2012) قد حدد منحى جديداً لسيرورة مفاوضات إيران مع دول مجموعة (5+1) بشأن برنامج طهران النووي، وما يفترض أن يستتبع ذلك من متغيرات إيجابية لفائدة إنجاح المحادثات المقبلة في العاصمة العراقية بغداد بتاريخ 23/5/2012. 2- حققت إيران في مباحثات أسطنبول تقدماً نسبياً لصالحها، إذ جرى الاتفاق على مواصلة المباحثات بشأن التعاون النووي. وعلى هذا الأساس كلف كل من السيد سعيد باقري والسيدة أشميت بإعداد مسودة مشتركة لكي تكون إطاراً لاستمرار التعاون، ستتم مناقشتها في اجتماع بغداد في 23 مايو 2012، وفي حال المصادقة على المسودة سيبدأ التعاون المتبادل. 3- عدّت إيران عودة الدول الغربية إلى طاولة الحوار بحد ذاته نقطة تسجل لصالحها. 4- طبقاً لرئيس الوفد الإيراني الدكتور سعيد جليلي، الذي أعلن تقدير دول مجموعة (5+1) لفتوى السيد خامنئي بتحريم إنتاج الأسلحة النووية واستعمالها بصفتها (الفتوى) دعامة حقيقية لمعاهدة (NPT) وآلية عملية سلمية لبلوغ المفاوضات الثنائية أهدافها المنشودة باتجاه: أ- القضاء على الأسلحة النووية ب- منع الانتشار النووي ت- ضمان الاستخدام السلمي للطاقة النووية ثانياً: الاتحاد الأوروبي نوه الاتحاد الأوروبي بالنتائج الإيجابية للمباحثات المشتركة، ووصفت بأنها كانت مفيدة وبناءة، وأكدت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “كاثرين اشتون” في حديثها للمراسلين خلال المؤتمر الصحافي المشترك في ختام مباحثاتها مع الوفد الإيراني، قائلة: توصلنا إلى ثقة بأن إيران جادة كما إن عليها أن تلتزم بالقواعد الدولية وأيضاً لها الحق في امتلاك برنامج نووي سلمي. وإننا جادون في اتخاذ خطوات عملية وملموسة. ثالثاً: الولايات المتحدة أشار الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إلى المحددات الآتية: 1- إن الدبلوماسية تبقى هي أفضل وسيلة لحل الخلاف مع إيران لكن نافذة الحل بدأت تغلق. 2- الحذر من استمرار المفاوضات طويلاً من دون أن ترشح نتائج للتفاهم والحل. 3- لم يتم تقديم أي تنازل إلى إيران في المحادثات النووية بأسطنبول. 4- فرض المزيد من العقوبات على طهران في حال لم يحصل أي تقدم في المفاوضات مع الدول الست خلال الأشهر المقبلة!. رابعاً: إسرائيل من جانبه، انتقد رئيس الوزراء الصهيوني “بنيامين نتنياهو” المحادثات بين 5+1 وإيران وأبدى الملاحظات الغاضبة الآتية: 1- إن الانطباع الأولى هو أن إيران حصلت على هدية، ولديها خمسة أسابيع بإمكانها خلالها مواصلة تخصيب اليورانيوم من دون حدود”. 2- “ينبغي على إيران التوقف من فورها عن التخصيب وإخراج المواد المخصبة وتفكيك المنشأة النووية في قم” 3- “إنني مؤمن بأنه يحظر منح دولة مهمة معادية في العالم إمكانية تطوير قنبلة نووية”. خامساً: الصين الشعبية لعبت الصين دوراً مهماً قبيل المباحثات وأثناءها، وأصدر مساعد وزير الخارجية الصيني “ما تشاو شيوي”، ممثل بكين في محادثات أسطنبول، بيانا أشاد فيه بتعاون الأطراف المشاركة، وأن الحوار كان جاداً وبناء، وأن بكين على استعداد للعمل مع الجميع من أجل تعزيز المحادثات والسلام، وسنواصل القيام بدور بناء في تسوية القضية النووية الإيرانية من خلال الحوار السلمي. سادساً: بريطانيا أكد وزير الخارجية البريطاني “وليام هيغ” أن محادثات أسطنبول تمثل خطوة أولى نحو إيجاد حل سلمي، إلا أنه عدّ أن “الطريق لا يزال طويلاً”. سابعاً: روسيا وفي الإطار ذاته قال نائب وزير الخارجية الروسي “سيرغي ريابكوف” الذي يقود الوفد الروسي أن “الأجواء بناءة والمباحثات جدية. حتى الآن الأمور تسير جيداً”.
المراجع: جوناثان شل. حروب نزع السلاح – وكالة أور الإخبارية 15- أبريل 2012 جريدة كيهان العربي أعداد (15- 16 -17-أبريل 2012) جريدة الوفاق الإيرانية العدد (18 أبريل 2012) مركز الدراسات الأمريكية والعربية. المرصد الفكري. العدد 17 أبريل 2012