أكد مستشار الملك للشؤون الدبلوماسية، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة د. محمد عبد الغفار أن المشروع الإصلاحي الذي تشهده البحرين انطلق من قناعات داخلية وضرورة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تواكب مقتضيات تطور العلمي ووسائل الاتصال، وما تمثله بيئة العولمة من تحديات دفعت بالشعوب النامية للمطالبة بتحقيق الإصلاح والتنمية في مختلف المجالات. وقال عبدالغفار، في محاضرة ألقاها يوم الخميس الماضي بمعهد دراسات الدفاع والتحليلات في الهند، إن بواكير حركة الإصلاح والتحديث بدأت في البحرين منذ مطلع القرن العشرين، وفي هذه الأثناء كانت تجربة الحركة السياسية في الهند لنيل الاستقلال حاضرة في أذهان العديد من أبناء الشعب البحريني، وأسهمت تأثيراتها على الوعي العام، وخاصة لدى العديد من المثقفين البحرينيين الذين درسوا في الجامعات الهندية في مطلع القرن العشرين. وأشار المستشار إلى أن انهيار المنظومات الدولية التي كانت ترتكز في أسسها على مرحلة الحرب الباردة تمثل فرصة مهمة لتشكيل منظومة جديدة تركز على التعاون الاقتصادي وتقوم على الإرث التاريخي للتعايش بين الشعوب المطلة على المحيط الهندي وامتداداً إلى بحر العرب والخليج العربي. وقال عبدالغفار إنه من المهم أن ننظر إلى العلاقات البحرينية -الخليجية مع الهند من منظور جيوسياسي استراتيجي، ويمكن تناول المشهد الاستراتيجي العام (Strategic Landscape) من خلال محاور ثلاثة: الأول، دور المحيط الهندي في تشكيل نظام جديد يقوم على الاقتصاد والتبادل التجاري، ويتأتي ذلك من خلال إحياء الروح الحضارية والدور التاريخي للمحيط الهندي والذي كان يمثل نقطة التقاء (Convergence) لنهضة تجارية واقتصادية على امتداد الموانئ الهامة انطلاقاً من الهند ووصولاً إلى الصين شرقاً ومنطقة الخليج العربي غرباً، وذلك قبل قدوم القوى الأوروبية في مطلع القرن السادس عشر. والثاني، ظهور النهضة الآسيوية العالمية (Global Asian Renaissance) على الأصعدة السياسية والاقتصادية انتهاء من مرحلة الحرب الباردة، أما المحور الثالث فيتمثل في ظهور الصحوة السياسية الإقليمية (Asian Regional Awakening) في آسيا والعالم العربي، واندفاع الحركات الاجتماعية (Social Movements) إلى إحداث تغييرت جوهرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع (Socio-economic and political changes). وأضاف مستشار الملك: “يمكن القول إننا لا نستقي من التاريخ الدروس والعبر فحسب، بل نستمد منه كذلك الإلهام الفكري والنظرة الشاملة التي تساعدنا على فهم الحاضر واستشراف المستقبل، وبناء على ذلك فإنه من المهم الرجوع إلى الإرث التاريخي للمحيط الهندي الذي شكل منذ فجر التاريخ محوراً حضارياً على الصعيد العالمي، ومثلت حركة الملاحة والتبادل التجاري دعامات هذا المحور الحيوي الذي نعمت بظلاله جميع الشعوب المطلة على ذلك المحيط، حيث حلت ثقافة التعاون بين الشعوب محل الصراعات العسكرية ومحاولات الهيمنة والاحتكار، ولا شك في أن انهيار المنظومات الدولية التي كانت ترتكز في أسسها على مرحلة الحرب الباردة تمثل فرصة مهمة لتشكيل منظومة جديدة تركز على التعاون الاقتصادي وتقوم على الإرث التاريخي للتعايش بين الشعوب المطلة على المحيط الهندي وامتداداً إلى بحر العرب والخليج العربي”. وفيما يتعلق بالعلاقات التجارية ما بين الخليج العربي والمحيط الهندي؛ أكد عبدالغفار أنها تعود “إلى نحو سبعة آلاف سنة، حيث ارتبط تاريخ الحضارات البشرية في الخليج العربي بحركة التجارة والملاحة مع جنوب وجنوب غرب آسيا، ومثلت تجارة العبور أسس التبادل التجاري والثقافي بين المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، وعلى هذه الأسس الوطيدة من التعامل التجاري والملاحي قامت عدة حضارات في العراق وفي السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية في البحرين وعمان”. وأضاف أن حضارات الهند العريقة أسهمت في تقديم نماذج متطورة لمجتمعات الخليج العربي وشعوب المتوسط على صعيد المؤسسات الاجتماعية والأعراف والتقاليد واللغات والمعتقدات، التي استمدت منها الكثير من الأفكار والقيم التي شكلت ملامح البشرية حتى يومنا هذا. وبالنسبة للخليج العربي أكد عبدالغفار أنه احتل مكانة بارزة منذ القدم بحكم موقعه الجغرافي، فقد كان من أهم طرق الملاحة البحرية للتجارة الدولية، وامتازت موانئه بالسيولة وتيسر الملاحة، خاصة وأن عرب الخليج برعوا في علوم الجغرافيا البحرية، فشهدت المنطقة حركة واسعة من التبادل التجاري مع كل من الهند والصين وشرق أفريقيا من جهة، ومع بلدان الخليج العربي والجزيرة العربية امتداداً إلى بلاد الشام ومنها إلى بلدان حوض البحر المتوسط وشمال أفريقيا. كما أوضح رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية أنه “كان لظهور الإسلام وانتشاره في الشرق دور كبير في تعزيز العلاقات بين مختلف شعوب الشرق، حيث سيطرت الدول الإسلامية في مطلع العصور الوسطى على حركة الملاحة والتجارة عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، وامتدت لتشمل أجزاء كبيرة من البحر الأبيض المتوسط. وأكد عبدالغفار أنه “على الرغم من الضعف الذي انتاب دول الشرق إثر تعرضها للاستعمار الأوروبي؛ إلا أن حركة الملاحة والتجارة استمرت بين شعوب المحيط الهندي والخليج العربي التي نجحت في توطيد علاقاتها الثقافية بعيداً عن معترك الصراع السياسي”. ورأى أن “انهيار المنظومات الأمنية التي قامت على أساس التنافس بين المعسكرين السوفيتي والغربي في مرحلة الحرب الباردة، تدعونا اليوم للبحث عن أنماط جديدة من التعاون الأمني والتبادل التجاري على أسس راسخة من التعايش والسلام بين شعوب المنطقة”. مضيفاً أنه “على الرغم من مساهمة الهند كشريك في منتدى آسيان (ASEAN) الإقليمي، ورابطة الدول المطلة على المحيط الهنديIOR-ARC) (Indian Ocean Rim Association for Regional Cooperation، إلا أن التطورات العالمية المتسارعة تؤكد ضرورة أن تبادر الدول المطلة على المحيط الهندي إلى الاستفادة من الحواف الاستراتيجية (strategic edge) وما تمثله من مزايا مهمة وآفاق واسعة لترسيخ التعاون الاقتصادي. وأشار المستشار إلى أن العلاقات بين البحرين والهند تمتد إلى تاريخ طويل حيث يمكن العثور على كم كبير من الوثائق التي تؤكد استمرار التواصل الحضاري بين شعوب الشرق، ومن ذلك دور الحركة الملاحية والتجارية مع الهند في التطور الاقتصادي بالبحرين منذ قيام حكم آل خليفة في عهد المؤسس الأول الشيخ أحمد الفاتح (1783-1795)؛ إذ يربط تقرير لشركة الهند الشرقية البريطانية عام 1790 بين ازدهار الدولة الناشئة مع حركة التجارة النشطة لسفن البحرين في الهند، ويشير التقرير إلى أن عملية فتح البحرين: “شجعت العتوب الساكنين فيها أن يشتروا سفناً صالحة للقيام برحلات من بلدهم إلى الهند وأن يستخدموها في تلك الرحلات، ومن ثم تمكنوا من نقل اللؤلؤ إلى سورت (ميناء على ساحل الهند الشرقي) مباشرة”. وأضاف بأن التقرير: “وصف أثر تطور حركة التبادل التجاري للدولة الناشئة مع الهند حيث ازدادت تجارة البحرين بطريقة ملحوظة منذ أن سيطر عليها العتوب عام 1783، فتزودوا بالسفن الصالحة للسفر من بلدهم إلى الهند، ونتيجة لذلك أصبح في مقدورهم جلب وارداتهم السنوية من البضائع الهندية”. وفي المقابل أخذ تجار البحرين يستوردون بضائع متنوعة من موانئ العراق وشرقي شبه الجزيرة العربية بهدف إعادة تصديرها إلى الهند”. كما يشير التقرير إلى أن تجار البحرين في تلك الفترة أصبح لهم استثمارات واسعة، ومساهمات برؤوس أموالهم في قطاع الإنتاج بالهند، حيث جاء فيه أنه “رغبة من ملاك السفن البحرينية في أن يجعلوا صلاتهم بسورت أبلغ في الربح والكسب فإنهم في الأيام الأخيرة أخذوا يعقدون صفقات بتسلم مواد تجارية متفرقة ويهتمون بمشروعات صغيرة تتناول: الأغزال القطنية، والشالات، والزراقي السورتية، وغيرها من الأقمشة الكوجراتية، ومن الشيت مما يصلح لأسواق حلب وبغداد والبصرة، وقسم كبير من هذه البضائع كان يمر من ميناء القرين إلى المينائين الأولين والباقي كان يستورد إلى البصرة”. وفيما يتعلق بالتجربة السياسية، رأى عبد الغفار أن: “التراث التاريخي والإرث الحضاري العريق في الهند قد مثل نموذجاً يحتذى به في مجال التعددية السياسية والأسس الدستورية التي أثرتها التجربة البريطانية، لتشكل نموذجاً فريداً من التنوع الثقافي والسياسي. فعلى رغم التنوع الديني والثقافي في الهند؛ إلا أن رؤية نهرو كانت واضحة وحاسمة منذ البداية لكيفية بناء الهند، حيث حرص منذ البداية على التأكيد على أهمية الأخذ بالنهج الديمقراطي كنظام وفلسفة للحياة السياسية الهندية”. كما قال رئيس مركز الدراسات: “إنه على الصعيد نفسه فإن بواكير حركة الإصلاح والتحديث بدأت في البحرين منذ مطلع القرن العشرين، وفي هذه الأثناء كانت تجربة الحركة السياسية في الهند لنيل الاستقلال حاضرة في أذهان العديد من أبناء الشعب البحريني، وأسهمت تأثيراتها على الوعي العام، وخاصة لدى العديد من المثقفين البحرينيين الذين درسوا في الجامعات الهندية في مطلع القرن العشرين، ومنها جامعة عليكرة (Aligrah)، بولاية أوتار براديش (Uttar Pradesh)، والتي درس فيها نخبة من الشباب البحريني منذ عام 1908 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، عندما اضطرتهم ظروف الحرب للعودة إلى بلادهم، حيث أصبح لهم دور بارز في الحراك الوطني والدعوة إلى التطور والتحديث”. وأضاف المستشار أنه “في الوقت الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط بمرحلة من الأحداث السياسية الداخلية والتي اصطلح على تسميتها: “الربيع العربي”؛ فإن الساحة السياسية في البحرين قد شهدت تفاعلاً شعبياً كبيراً مع المشروع الإصلاحي الذي بادر به جلالة الملك عام 1999 واستبق تلك الأحداث بمبادرة تنطلق من الإرث التاريخي لحركة التحديث والتغيير في البحرين منذ نهايات القرن التاسع عشر، فأطلق مشروعه الإصلاحي القائم على تعزيز مؤسسات الديمقراطية لتشكل بدورها دعائم دائمة لمملكة دستورية تواكب احتياجات البحرين وتطلعات الغالبية من أبنائها في بناء الدولة المدنية القائمة على التنمية الاقتصادية والسياسية المستدامة، والتي تسهم بدورها في تحقيق علاقات متوازنة بين أبناء المجتمع الواحد”. كما أكد عبدالغفار “أن المشروع الإصلاحي الذي تشهده البحرين انطلق من قناعات داخلية بأهمية الإصلاح وضرورة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا تتحقق إلا من خلال التنمية السياسية التي تتواكب مع مقتضيات تطور العلمي ووسائل الاتصال، وما تمثله بيئة العولمة من تحديات دفعت بالشعوب النامية للمطالبة بتحقيق الإصلاح والتنمية في مختلف المجالات”. وفي المجال الاقتصادي، صرح المستشار “أنه توثقت عرى التعاون الاقتصادي والسياسي والتبادل الثقافي والتجاري بين الهند والبحرين حتى يومنا هذا، حيث تعتبر الهند الشريك التجاري الرابع للمملكة بالنسبة للصادرات إلى دول العالم، ووقعت البحرين مع الهند العديد من الاتفاقيات الثنائية من بينها اتفاقية التعاون الاقتصادي والتجاري والفني، واتفاقية تجنب الازدواج الضريبي على الدخل ورأس المال، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمار، إضافة إلى وجود لجنة مشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والفني بين البلدين”. أما على صعيد مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ فقد بلغ حجم التبادل التجاري مع الهند خلال العام 2010-2011؛ أكثر من 118 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتجاوز حجم التبادل التجاري بينهما 130 مليار دولار خلال العام 2013-2014، وأصبحت الهند الدولة الثالثة التي تدخل في محادثات مشتركة مع دول مجلس التعاون إلى جانب الولايات المتحدة واليابان حول التجارة الثنائية بينهما، وتجري في الفترة الحالية محادثات إبرام اتفاقية التجارة الحرة بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة بين الهند ودول مجلس التعاون التي يزيد حجم استثماراتها في الهند عن 125 مليار دولار في قطاعات البنية التحتية، والتصنيع، والاستثمار العقاري، والنفط، والغاز. وقد اختتم المستشار كلمته بالقول إنه “تدعونا تلك العلاقة الاقتصادية للتأكيد على ضرورة ترسيخ إرث التعاون الذي أسست له حضاراتنا العريقة عبر التاريخ، حيث يمثل المحيط الهندي شرياناً رئيساً من شرايين شبكة العولمة، ومعبراً لنحو 50 بالمائة من حركة النقل البحري بالحاويات، و70 بالمائة من التجارة العالمية من المواد البترولية، وفي المقابل فإن منطقة الخليج العربي تنتج أكثر من 30 بالمائة من احتياجات النفط العالمية و14 بالمائة من إنتاج الغاز العالمي، وتتوقع الدراسات الأخيرة في مجال الطاقة أن يتضاعف الطلب العالمي على النفط بنحو 50 بالمائة بحلول عام 2030، واعتبر البنك الدولي منطقة الخليج العربي عام 2011 أقل مناطق العالم تصنيفاً من حيث المخاطر على الأداء الاقتصادي، والثالثة على مستوى العالم من حيث المستوى التجاري والجيوسياسي، ولاتزال المنطقة تحتوي على نحو 55 في المائة من احتياطي العالم من النفط، و40 في المائة من الغاز الطبيعي.