^ أفهم أن يكون التظاهر في الشارع جزءاً من التعبير عن الرأي وإيصال الصوت، وجزءاً من الضغط على السلطة للاستجابة للمطالب المشروعة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أفهم أن يكون التظاهر السلمي جزءاً من منظومة المجتمع الديمقراطي، لكن من غير المفهوم أن يتحول الشارع إلى غول مخيف يؤذي خلق الله ويذهب الطمأنينة ويعطل الأعمال يوماً بعد يوم. أفهم أن يكون الاحتجاج السلمي حقاً مشروعاً للمواطن عندما يضيق الفضاء عن الوصول إلى الحقوق، أو عندما يتعذر إيصال الصوت بالطرق الأخرى، ولكن أن يأتي التظاهر العشوائي أو المنظم في مقدمة الأفعال وردود الفعل بشكل آلي ليتحول إلى القاعدة -وليس الاستثناء- فتلك قصة لا يمكن استيعابها أو القبول باستمرارها على هذا النحو المنهك للمجتمع قبل الدولة دون جدوى حقيقية. أن يتحول الشارع إلى بديل دائم عن المؤسسات وعن العمل المؤسسي الذي يبني الديمقراطية ويتقدم بالمجتمع، ويحقق الثمار على الأرض، فتلك قصة لا تنتهي في الغالب إلا بأحد أمرين: - إما بانتشار الفوضى تحت مسمياتها المختلفة، والفوضى إذا ما انتشرت وعمت، فإنه يصعب التحكم في نواتجها المدمرة. - إما القضاء على المؤسسات وتهميش دورها بدلاً من ترسيخ عملها وتطويره بما يعزز الاتجاه نحو البناء الديمقراطي المؤسسي، وبما يرشد الحكم والمعارضة معا، ويوجه حركة الجمهور إلى ما يخدم مصلحة البلد ومصلحته في النهاية. المشكلة تبدأ عندما يتحول الشارع إلى مرتع للفوضى بدلاً من بناء الديمقراطية، ليصبح ديكتاتوراً حقيقياً (يحكم ويتحكم) فحتى في الدول التي تعتبر نفسها قد أنجزت ثورتها -في سياق الربيع العربي- فانتخبت برلمانها وسلطاتها الجديدة، لايزال هذا الشارع يتغول فيها ويرفض كل شيء، لأنه انطلق من عقاله في فورة الغضب، ولم يعد قادراً أو راغباً في العودة إلى المؤسسات من جديد، ولذلك أصبح من السهل بل من الطبيعي المناداة بالعصيان المدني والإضراب العام ومواجهة شاملة مع الدولة ومؤسساتها والتحريض عليها. ففي مصر مثلاً بلغ الشارع في تغوله درجة التحريض على مؤسسة الجيش، في لعبة مخيفة وغير عاقلة، لأن الاصطدام بالجيش يعني كارثة ويعني تدمير السقف الذي يحمي ما بقي من كيان الدولة، ولذلك بدأت تتعالى أصوات للتعبير عن الخوف من تسلط الشارع وسلطته الفوضوية التي لا تريد أن تقف عند حد، بل وأصبحت فضاء لتدخل القوى الأجنبية في بعض الأحيان ومجالاً خصباً لافتعال الحروب الأهلية او التمهيد إليها. السؤال المهم هنا: ما مدى مشروعية النزول إلى الشارع من أجل الحقوق خصوصاً إذا ما أصبح هذا الخروج متواصلاً ومعطلاً للحياة العامة والخاصة؟ ومتى يمكن لهذه المشروعية التي ضمنها الدستور والقانون أن تتحول إلى حالة غير مقبولة يتوجب ترشيدها بالقانون نفسه؟ إن الإجابة عن هذا كان السؤال تختلف باختلاف الغاية من النزول إلى الشارع، فإذا كان النزول من أجل التعبير عن الرأي، فهذا أمر لا خلاف فيه أو عليه، طالما أنه حق يكفله الدستور للجميع، و لكن إذا كان النزول إليه من أجل التغيير وتحقيق مطالب سياسية ودستورية بقوة الشارع فأمر قد يكون مقبولا في ظل الحكم الاستبدادي الديكتاتوري الذي لا يتيح للناس طريقاً آخر غير الشارع. كما يكون مشروعاً في ظل نظام تنعدم فيه المؤسسات التي تمثل الشعب وتدافع عن حقوقه من برلمانات وهيئات حقوقية وقضاء مستقل، حيث لا يملك الشعب في هذه الحالة إلا أن ينزل إلى الشارع لانتزاع حقوقه، أما إذا كان في المجتمع من المؤسسات القانونية والدستورية والسياسية -مثلما هو الشأن في البحرين- ما يكفل التعبير عن الرأي وتحقيق المطالب والحصول على الحقوق، فإن النزول إلى الشارع يجب أن يكون الاستثناء وليس القاعدة، دون أن يعني ذلك حرمان الناس حقهم في التظاهر السلمي غير المعطل للحياة كأداة من أدوات التعبير الديمقراطي.