الحمد لله رب العالمين، بناء على ما ذكرناه في الحلقة الماضية من معنى المثلية، فالحقوق والوجبات التي على الزوجين تنقسم إلى قسمين: - حقوق وواجبات يتساوى فيها كل من الزوجين تساوياً تاماً: مثل إحسان المعاشرة، وقصر الطرف عن غير ما أحل الله لهما، والمماثلة في وجوب الرعاية (الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها)، والتشاور في الرضاع، ونحو ذلك. - وحقوق وواجبات تكون بين الزوجين على وجه المقابلة، كل بحسب ما قضاه الله عليه بمقتضى الفطرة والخلقة والشرع والحكمة، ومرجع ذلك إلى الشريعة وتفاصيلها، كما تقرره السنة المطهرة، وبحسب أنظار المجتهدين. ويدل على هذا التقسيم قوله تعالى في الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ)، يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله، في “التحرير والتنوير” (1/643): «وفي هذا الاهتمام مقصدان: أحدهما: دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). وثانيهما: تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص؛ لإبطال إيثارهم المطلق الذي كان متَّبَعا في الجاهلية. وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم: من الإذن بتعدد الزوجة للرجل دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر. ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل. وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل؛ لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعاً عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة؛ ولأنه مظنة الصواب غالباً، ولذلك إذا لم يمكن التراجع واشتد بين الزوجين النزاع لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية (وإن خفتم شقاق بينهما)” انتهى. ونقول أيضاً، أن المرجع في تحديد هذه الحقوق والواجبات هو (المعروف) كما ذكرت الآية، وفي هذه الكلمة دلالات عظيمة، وإشارات إلى أمور كثيرة: قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: “وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة. ومرجع الحقوق بين الزوجين ويرجع إلى المعروف وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والعوائد. وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة والمعاشرة والمسكن وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف فهذا موجب العقد المطلق، وأما مع الشرط فعلى شرطهما، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً” انتهى. ويقول ابن عاشور (1/643): “وقوله (بالمعروف) الباء للملابسة، والمراد به: ما تعرفه العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن، وهو ما جاء به الشرع نصاً أو قياساً أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة التي ليس في الشرع ما يعارضها، والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر. أي: وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابساً ذلك دائماً للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار..” انتهى. إضافة إلى كل ما سبق، فإن دين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي شقيقة الرجل، والمربية الأولى في المجتمع، فلذلك شرع من قواعد العدالة ما لم يكن معروفاً على وجه الأرض في شريعة ولا في قانون، فسبق إليه الإسلام الحنيف، وجاء بإصلاح حال المرأة ورفع شأنها؛ وارتقى بها من متاع يرثه الرجال، كما يرثون سائر المال والمتاع، فجعلهن شقائق الرجال، لهن مثل الذي عليهن من الحقوق والواجبات، لا يضيع لهن عمل ولا سعي، ودروهن في النهوض بالأمة، عامة، وببيتها خاصة لا يقل عن دور الرجل بحال!! والله أعلم.