كتب - علي الشرقاوي: ما إن أسمع، ولو من بعيد كلمة المراداة، حتى أعود بذاكرتي إلى أواخر الخمسينات، إلى أم الحصم، إلى بيت خالي إبراهيم بوسيف، الذي انتقل مع أولاده وبناته من بيت غدنانة في منطقة القضيبية إلى هذه المنطقة التي يزيد فيها عدد بيوت التعشيش أضعافاً مضاعفة عن بيوت الحصى. إلى بيت عيسى الشملان والد أحمد وشملان وعبدالله وهذا الأخير كان رفيق الصبا أواخر الخمسينات. أعود إلى بيت عيسى الشملان المطل على الشارع الوحيد في أم الحصم، وهو أحد البيوت القليلة المبنية من الحصى، تمتد أمامه بيوت السعف “التعشيش” إلى الساحل، خصوصاً وأن أم الحصم تعتبر أحد مصايف أهل البحرين في فترة الصيف. لقد شاهدت في بيت عيسى الشملان، وسمعت واقتربت من رقصة المرادة، لكن لا أود من أحد أن يسألني عن المناسبة؛ فأنا لا أتذكرها. ربما كانت احتفالاً بعودة الغواصين.إذ ظل بعض الغاصة آنذاك يذهبون إلى الغوص. وكان خالي إبراهيم بوسيف أحدهم، لكن ليس بشكل جاد، أي أنهم يعتمدون عليه كأهم مصدر رزق كالسابق، بل ربما هو من طبيعة الحنين إلى أيام البساطة وأيام الابتعاد عن هموم اللقمة، والعودة للانفتاح أمام الأفق اللانهائي المتوفر في البحر أكثر من اليابسة. مسرحية «خور المدعي» لقد خلقت رقصة وأغاني المراداة عندي؛ المسرحية الشعبية الشعرية “خور المدعي”.. “يا خور أم الدعي.. بالك تغرق موزه.. يا خور الم الدعي. تبيع وتشتري.. موزة في خير أبوها.. تبيع وتشتري”. وكانت أغنية خور أم الدعي تردد في ذهني لفترة طويلة، ربما من أواخر الخمسينات في بيت عيسى الشملان. لكن الكلمات لم تكن متكاملة، وبحثت عنها كثيراً ولعدة سنوات، إلا أنني لم أحصل عليها إلا من خلال الصحافية البحرينية طفلة آل خليفة وصديقتها مريم الرويعي، العضوتان الناشطتان في جمعية الرفاع النسائية الثقافية. لقد وفرت طفلة آل خليفة نص كلمات الأغنية، ووجدت إن ما أبحث عنه قد حصلت عليه، وبدأت في صياغة المسرحية الشعرية الغنائية “خور المدعي”. وقد تصور البعض أنني خلطت بين أم الدعي والمدعي، ولا يعرفون إنني قصدت ذلك، من أجل إعطاء القصة الشعبية القديمة بعداً اجتماعياً أكبر من أم الدعي، التي تعني “أم دعيج”. وقد ظلت هذه المسرحية حبيسة الأدراج، إلى أن وصلت إلى الفنان يعقوب يوسف، الذي عمل على تلحينها ومن ثم إلى المخرج جمعان الرويعي الذي اشتغل على إخراجها لمسرح أوال. «المراداة» احتفال بعودة الحياة إن البيئة دائماً ما تصنع ما عليها من فنون وأشكال وعادات وتقاليد، وحرف وفنون وحكايات. والمراداة في البحرين واحدة من الفنون النسائية الأصيلة التي فرضتها البيئة على هذا النمط من الاحتفال بعودة الغاصة من البحر. وجميعنا يعرف إن غياب الغاصة من ثلاثة إلى أربعة شهور، فتترك النساء وبالتالي الأولاد والبنات بانتظار عودة الآباء من الغوص، حاملين معهم الخيرات. فعودة الغاصة عودة الحياة إلى الأرض، عودة الضحك والفرح إلى الدار. من هنا، فما إن يحين موعد عودة الغواصين حتى ترفع الأعلام فوق السطوح، كدليل وبشارة على عودة الحياة الطبيعية لكل من يعيش على هذه الأرض. «المراداة» رقصة جماعية لا نستطيع تحديد أصل أو نشأة هذه الأغاني. وترى الباحثة والفنانة الفوتوغرافية الفنانة حنان حسن آل خليفة في كتابها (المراداة) إن المراداة عبارة عن أغان ورقصة شعبية جماعية للفتيات فقط. وقد تعني كلمة المراداة الذهاب والعودة أو المراوحة في اللغة الدارجة لأهل البحرين، مشيرة إلى مشاركة الجيل الذي تنتمي إليه في مهرجانات متعددة لإحياء هذا التراث. وتستشهد الفنانة حنان حسن برؤية نورة الشيرازي في بحثها عن موضوع المراداة، وتقول: “لم أجد لهذه الكلمة أصلاً في اللغة، كما لم أجد من يدرك أصلها أو نشأتها، كما لا يوجد لهذه الرقصة مثيل أو مقارب في الدول العربية الإسلامية، فلكل دولة من تلك الدول رقصاتها الشعبية الخاصة بها كالسماح في سوريا والدبلة في لبنان والعالية في العراق، وكذلك بالنسبة للدول الخليجية لا نجد المراداة في السعودية وعمان والإمارات، فلكل دولة رقصاتها وأغنياتها الشعبية الخاصة بها. أما بالنسبة لدولتي الكويت وقطر فقد عرفت هاتان الدولتان المراداة حديثاً، وما يؤكد انتقالها إليهم من البحرين هو أن جميع ما ورد فيها من كلمات إنما ترجع إلى أحداث وأماكن وأزياء البحرين”. وتضيف الباحثة: “لا نستطيع تحديد أصل أو نشأة هذه الأغاني، لكننا نستطيع القول بالرجوع إلى الأحداث السياسية والاجتماعية؛ أن المراداة نشأت من جذور المجتمع البحريني ذاته. فالأحداث والصراعات تركت أثرها ليس في أغاني المراداة فحسب، بل شملت كل الإبداعات الشعرية على صعيد الأفراح والغوص وأغاني الطفولة، وبكل ما يختص بها من احتفالات كحلق الشعر في انتهاء عام الطفل وكذلك الخطوات الأولى وأغاني المهد وبروز الأسنان وغيرها هذا عدا النذور المتعلقة بالطفل. وقد استطاعت هذه الإبداعات أن تسجل عن طريق الأغنية، كثيراً من العادات والتقاليد والأعراف والقيم، كما حفظت لنا كثيراً من الأزياء والحلي. كما سجلت الأغنيات أحداث ووقائع العصر القديم للبحرين المليء بالصراعات والاضطرابات. ولو قدر لهذا التراث أن يكتب أو يجمع في الربع الأول من القرن الماضي لتفاجئنا بهذا الإبداع الذي تناول كل جوانب الحياة بأحزانها وأفراحها وأحلامها”. وتواصل: “كانت هناك رؤية شاملة لكل مشهد من مشاهد الحياة اليومية. لقد ساهموا بشكل أو بآخر في تشكيل ملامح ذلك المجتمع باختصار وأحالوا كل شيء وأي شيء إلى أغنية. لقد نقلوا أحزان الغوص ومآسيه من (الحلة) رفع المرساة وبدء سفر السفينة أو (الركبة)، و(الرد والقفال) العودة من رحلة صيد اللؤلؤ، حتى جلب المياه من البحر (الكوكب)، وما يجدونه أو يعانونه في ليالي الشتاء وأغاني الرحى وأغاني (التوب توب) وأشياء كثيرة صخب السفن وهي تغادر الشواطئ ومأساة العودة التي لا تخلو من مآسي وليست من مأساة، وقسوة الظلم التي عبروا عنها تجاه النواخذة والطواويش كل هذه المشاعر جسدوها في تلك الأغنيات التي استطاعت تغطية كافة الجوانب الحياتية على اختلاف مستوياتها. وكل الأشياء اللامرئية بدت مرئية أمامنا بوضوح. لقد استطاعوا اقتناص اللحظة ونقلوها بكل أمانة وصدق”. تعبير عن حركة الراقصين من جانبها تبين الباحثة ليلى الحدي إن المراداة “رقصة وهي إحدى الرقصات الشعبية الجماعية التي تمارسها النساء والفتيات، والمراداة لغة من “راد” وهو المعنى الذي تعبر عنه حركة الراقصين في الإقبال والإدبار في الميدان، وما تماسك أيدى الراقصين النسوة وتكاتفهم إلا دلالة على عمق الإيمان بوحدة الصف والوقوف في وجه التحديدات وقفة واحدة”. بين التلاسن والمراداة وقفت طويلاً أمام كلمة المزادة ومن أين جاءت، ووصلت إلى أنها جاءت من الكلمة الشعبية “المرادد” وهي أن يرد الواحد على الآخر. وإن كانت تطرح عملية التلاسن السلبية بصورة عامة، إلا أنها تعني الحركة الحوارية للجسد والنغم والأرض التي تتحرك عليها الراقصات بشكل منسجم وموزون إيقاعياً ونفسياً على قطعة من الأرض، وهي ساحة الرقص. ومن الممكن استخراج معنى آخر منها وهي كلمة “المراد” أو التمني أو المطلوب والمرغوب. وبهذا المعنى فإن جمع المراد بالمرادات، ربما يكون قريباً من التصور الذي ترغب فيه النساء. كيف تؤدى المراداة تقام رقصة المراداة بعد صلاة العصر وتنتهي عند أذان المغرب ولا يصحبها تقديم أية مأكولات ولا ولائم، لكن تصاحبها بعض البائعات ممن يقمن ببيع المكسرات وبعض الحلوى. وتتوافد الفتيات والنساء للتفرج، ويحدث كثيراً أن تشارك المتفرجات الراقصات، حيث يتوزعن صفين بالتساوي. وتحتل “البدآت” ممن يبدأن الغناء أواسط الصف، ويجب أن تترك مساحة بين الصفين لتسهيل حركة الغدو والإياب. يبدأ أحد الصفين بالغناء عندما يتقارب الصفان، ومن ثم يتراجع إلى مكانة الأول، فيتقدم الصف الثاني ويتقارب الصفان مرة أخرى ثم يتراجعان إلى مكانهما الأول. هذا هو شكل المراداة. كما إن هناك شكلاً آخر للمراداة يسمى “الردحة”، وفيه لا يتقارب الصفان، كما إن الأغنيات تتميز بمقاطع مختلفة تصاحبها ضربات خفيفة على الأرض بالقدم اليمنى. ولا يوجد في المراداة أغان خاصة، وهي تبدأ دائماً بالصلاة على الرسول الكريم، فالأغاني في الغالب تخضع للأحداث والشخصيات القريبة من أهل البيت. وربما تذكر البدآت بعض الأسماء ولكن الراقصات قد يذكرن أسماء أخرى قريبة أو خاصة بهن. لكن إزاء بعض النصوص التي تتقيد بحوادث معينة هنا؛ لا يمكن حذف الاسم أو استبداله، ولذلك أمثلة كثيرة تذكرها الباحثة نورة الشيرازي؛ “فمثلاً يشير اسم أم أحمد في الأغنيات إلى أم الشيخ أحمد الفاتح، كما إن اسم سلطان يشير إلى سلطان بن سلامة رئيس قبيلة البنعلي، وكذلك طوق وهو سليمان بن سيف بن طوق وكان من رجال الملك سعود بن عبدالعزيز. هذه الأسماء لا تتغير وتكون ملزمة لا يمكن استبدالها نظراً لظروفها الخاصة”. وتشترك في المراداة من عشرين إلى ثلاثين فتاة، يقفن في صفين متقابلين ومتوازيين، وتمسك كل فتاة بكف الأخرى ويبدأن في الصف الأول بغناء شطر من القصيدة مع رفع أذراعهن إلى الأعلى وضرب أرجلهن في الأرض متقدمين نحو الصف الثاني ثم يرجعن إلى الخلف. بعدها يبدأ الصف الثاني، بمثل ما فعل الصف الأول، ويتكرر ذلك حتى نهاية القصيدة. ففن المراداة من الفنون الغنائية الراقصة القديمة، وكان يؤدي بواسطة النساء فقط وفي مناسبات معينة كالأعياد وإنزال سفينة جديدة إلى البحر، وعند شفاء المريض ورجوع المسافرين من السفر. ومن قصائد فن المراداة “حمام تاروت عليك اليوم طيرين طير امحني أو طير أريش العين.. حبلت فخ الهوى باصيد لثنين أربع حمامات على راس البتيل باتو باموت باموت”. ومنها أيضاً “توب توب يا بحر أربعة والخامس دخل.. ما تخاف من الله يا بحر.. أربعة والخامس دخل.. يا نوخذاهم لا تصلب عليهم.. ترى حبل الغوص قطع أيديهم.. يا ريتني غويمة وأظلل عليهم”. ومنها: “ مافيكم رديّات ..عسى بخت من قال ما فيكم رديّات. مشرق ورايح.. ياذا القمر ياللي مشرق ورايح. مرقده في البرايح.. سلم على اللي مرقده في البرايح. خنين الروايح.. سلم على اللي خنين الروايح.. فوق السطوحي.. يا زارع المشموم فوق السطوحي.. عذبت روحي.. لا تزرعه يا شوق.. عذبت روحي. على السطح طليت.. عذبتني ياللي على السطح طليت.. وعقبه تعليت.. أويتيني بروحك.. وعقبه تعليت. يوهره في صحن صين.. أكله وخذتها.. ويوهره في صحن صين.. وكل السلاطين.. يا البوهره تشريج.. كل السلاطين.. ويدفوها على السيف أم الحنايا.. يدفوها على السيف.. تيير المياديف.. كلها اصبيان تيير المياديف”. ولا يرافق هذه الأغاني والرقصات أية آلة موسيقية، بل يعتمد على التصفيق والحركات الإيمائية بالأيدي وحركة الأقدام والجسم. ويلاحظ أن رقصة “المراداة” المشتهرة في البحرين هي لون آخر لهذه الرقصة الشعبية. وهو اللباس الخاص بهذه الرقصة “الدراعة” ثوب النشل. ويستكمل بالحلي الذهبية والريحان “المشموم” الذي يعلق على طول ضفائر الشعر. تراث لن يزول إن الأعمال الشعبية العظيمة، كالمراداة وغيرها من الفنون، لا يمكن أن تضيع؛ فهي موجودة في الهواء الذي نتنفسه، في حياتنا اليومية، في “حزاوينا” وسوالفنا وأمثالنا. واذا اختفت لبعض الوقت، نتيجة لضريبة التطورات التكنولوجية. فإن هناك من يأتي لاستعادتها بصورة أقوى مما كانت عليه، قد يحولها إلى مسرحية، إلى فيلم، إلى مسلسل تلفزيوني، إلى أوبريت. إنها لا تضيع لأنها تتحرك داخل الإنسان.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}