^  قال: لقد ألقت إشكالات الواقع وصراعاته المحتدمة وضعف دور ووزن القوى التنويرية العقلانية بظلالها على المشهد الإعلامي المحلي، بمكوناته العمومية والأهلية على حد سواء، وبدلاً من أن يقود الإعلام الرأي العام الوطني، في سياق وطني توحيدي، يبدو كمن أصيب وبمستويات متفاوتة من التخلخل في الرؤية واهتزاز غير مسبوق في الخطاب الإعلامي. قلت: في ضوء تلك الأحداث المزلزلة التي اهتزت فيها الثقة الاجتماعية وتوسع فيها الشرخ الاجتماعي - الطائفي إلى درجة ظهور ما يشبه جدار الفصل الطائفي الذي بدأ يتكرس في العقول والنفوس وفي المخاوف والهواجس المخيفة، التي يخشى أن تنعكس على الجغرافيا وعلى التعايش الإنساني لا قدر الله، على النحو الذي رأيناه في العراق الجديد، يجتهد الإعلام في ظل التأزم المتصاعد، في إيجاد طريق وسط بين مخاطر الانقسامات التي يواجهها البلد، من ناحية، وبين رسالته التوحيدية الوطنية، من ناحية أخرى، للتحرك داخل حقل الألغام الطائفي، ولكن وبالرغم من تلك الجهود والمحاولات- ولأسباب عديدة تتعلق بالبنية التنظيمية وبالموارد وبالرؤية وبخطورة الانقسام وعدم رغبة الأطراف المختلفة وعدم وعيها بمخاطر تلك الانقسامات على مستقبل البلد، لم يوفق الإعلام، ولن يوفق لوحده، في صياغة الخطاب الإعلامي الوطني التوحيدي والواضح في مفرداته ولغته والمنسجم مع متطلبات المجتمع الديمقراطي ومع متطلبات الوحدة الوطنية.. قال: ولكن يبدو إعلامنا- خاصة الأهلي- منقسماً على نفسه، عاكساً انقسامنا الاجتماعي- السياسي الذي فرضته الأزمة وتداعياتها في حين يعلم الكل أن للإعلام دوراً رائداً في البناء والتوجيه. قلت: لم يعد للإعلام بالمفهوم الذي تقصده ذلك التأثير الضخم الذي تشير إليه، بل أصبح هامشاً- خاصة بين أوساط الفاعلين من الشباب- فالإعلام الذي بات يقود اليوم هو إعلام التواصل الاجتماعي المنفلت من عقاله، والذي التحق به الجميع، حتى الوزراء والمثقفين والكتاب ورجال الدين، بالإضافة إلى الآلاف من المقنعين، الذين يعكسون حالة وإيقاع المجتمع بشكل لحظي وفوري. هذا بالإضافة إلى الإعلام الذي لا يصنع الواقع، إنه ينقله أو يعلق عليه، قد يوجهه في أحوال محددة. قال: وماذا عن إعلامنا العمومي التابع إلى الدولة، أليس من واجبه، العمل على تجاوز هذا الواقع وتصحيح الرؤية خاصة في ضوء ما أثارته الأحداث من نعرات؟ قلت: الأزمة أثرت في الإعلامي الرسمي مثلما أثرت في غيره، فقد فاجأته على الأرجح، ولذلك بدا مرتبكاً أمام حالة لم يتعود على مجابهتها ولا خطط لمواجهتها، ولكن من الموضوعية القول: إن الخطاب الإعلامي العمومي عندنا قد شهد خلال سنوات بعض الاجتهادات المتفاوتة الأهمية، ظلت مبعثرة وغير منتظمة بالرغم من التسليم المبدئي بأن الخطاب الإعلامي هو ممارسة اجتماعية- سياسية ديناميكية متطورة ومتغيرة، ولكن الملاحظ في هذا الخطاب أنه بدا خلطة من الخطابات الإعلامية غير المنسجمة والمتسقة مع السياق الديمقراطي ومع سياسة الدولة وأولوياتها في كل مرحلة، وافتقد إلى عنصري الانسجام وروح المبادأة فظل يتحرك في أغلب الأحيان– بقدر ملحوظ من التردد– وغالباً من موقع رد الفعل، وإن كنت أرى أن هذا الخطاب الإعلامي الرسمي قد بدأ يتحسن بشكل ملموس، وإن بدا هذا التحسن بطيئاً وغير مقنع بالنسبة للبعض. قال:وما الحل في رأيك ليخرج إعلامنا من هذه الحالة ويصبح قادراً على استعادة دوره في بناء الوحدة الوطنية وخدمتها بشكل متسق ومقنع، خاصة في ظل تزايد تأثير القنوات الطائفية في الفضاء المحيط بنا؟ قلت: الخطاب الإعلامي العمومي القوي والفعال هو الذي يمتلك رؤية واتساقاً في المنطق والتحليل، وسرعة في الحركة والبرمجة وانسجاماً في اللغة، وتكاملاً بين المسموع والمقروء والمسموع والإلكتروني بما يجعله أشبه بالسيمفونية، كما يكون قادراً على إحداث استعارات في المفاهيم والأطروحات لمواكبة الواقع ويحظى بقدر أكبر من التأثير، وعلى سبيل المثال امتلاك القدرة على تبني الخطاب الإعلامي العمومي بعض المقولات أو المفاهيم التي يطرحها الخطاب المعارض ويدمجه في إطار بنيته الخطابية، بهدف التأثير في الجمهور وضمان عدم احتكار المعارضة، هذا التأثير هو من أخص الخطوات فاعلية لو أريد لها الإعلام أن يكتسب المزيد من المساحة والتأثير، فالخطاب الإعلامي له شروط كثيرة جداً تتعلق بكل جوانب الحياة كلها ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وحين تطرح قضية وجوب تغير هذا الخطاب ومواكبته للمستجدات، ولا شك أن تحولاً من هذا القبيل يتطلب كفاءة ومعرفة واسعتين على صعيد فهم الخطاب الإعلامي وتحليله، ودمج وتطوير البعد الإدراكي في عملية تحليل الخطاب وتحليل ممارسات إنتاج المادة الإعلامية واستهلاكها، واستقبال الجمهور لها وتفاعله معها ..