^  من بين إفرازات الأحداث التي مرت على المنطقة العربية خلال السنة الماضية والنصف، شيوع حالة من القنوط السياسي شبه العامة انتشرت في صفوف المجتمعات العربية، بما فيها تلك التي لم تهب عليها رياح التغيير، وسيطرت على الخطاب الإعلامي الذي يسود ساحاتها السياسية. وبوسع من يتابع ذلك الإعلام العربي غير الرسمي، بأشكاله كافة من مقروءة ومرئية ومسموعة، أن يلمس نبرة استسلامية واضحة لا تخفيها بعض الشعارات البراقة المتناثرة، تطغى عليها دعوة استسلامية تصل إلى التشكيك في المسلمات التي تؤمن بصيرورة التغيير التي تحكم قوانين تطور المجتمعات الإنسانية، معتبرة المجتمع العربي الحالة الاستثنائية الساكنة التي تثبت قاعدة دينامية التغيير التاريخية. يمكن تلمس كل ذلك، وأخرى غيرها أيضاً في الدعوات التي تبث حالة من التحسر على إيجابيات ما مضى وتحاول تحسين معالم صورته، والتشكيك في الحاضر القائم والتركيز على سلبياته، والتحذير من مخاطر ما هو قادم والتلويح بمثالبه. يشجع مثل هذه النزعات مجموعة من الأسباب التي يمكن رصد أهمها في النقاط التالية: 1. غياب الشخصية الوطنية الكارزمية التي تمتلك المؤهلات القيادية التي تبيح لها أخذ زمام المبادرة، والتقاط الفرصة التاريخية الملائمة لإحداث التغيير الإيجابي المطلوب، الذي يقطع الحبل السري مع عناصر المرض القديمة ويقيم على أشلائها ركائز المجتمع الجديد. مثل هذه الشخصية يفترض فيها أن تكون إضافة إلى مؤهلاتها الذاتية، قد تخلصت، حضارياً من “طبائع الاستبداد” التقليدية، وخلعت عن جسدها، ومن ثم نزعت من ذهنها، أثواب الأنانية الفردية وأحرقت سفن نفي الآخر، وركبت بواخر القبول الصادق به وبما يتبناه. 2. بعض الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها القوى التي قادت عمليات التغيير والتي يصعب غفرانها، وعلى وجه الخصوص تلك القوى منها التي أطاحت بالأنظمة القديمة والتي أمعنت في تخبطها على الصعد كافة، سياسية كانت أم اقتصادية بل وحتى الاجتماعية، وعدم تردد البعض منها في العودة إلى فلول عناصر الأنظمة القديمة، للاستعانة بها في وضع الخطط أو تنفيذ البرامج التي تدعو لها تلك القوى الجديدة التي يفترض فيها أن تكون قد حلت وإلى الأبد مكان تلك القديمة. 3. حالة الارتباك الطاغية على سلوك، ومن ثم صفوف القوى التي حملت راية التغيير، والتي بدت اليوم في نظر المواطن غير مؤهلة لقيادة دفة سفينة دخلت منطقة أمواج عالية بحاجة إلى ربابنة مهرة يمسكون بدفة السفينة، ويشيعون الأمل بالنجاة في نفوس ركابها، ويتحملون بكفاءة مسؤولية قيادة الأمور على سطحها. هذه الثغرة القيادية ما تزال قائمة، وتمثل نقطة ضعف “أخيلية” في جسم القوى التي تحاول أن تقود عملية التغيير لإنجاز المهام المطلوبة، التي تعين على تجاوز هذه المنطقة المتلاطمة الموج التي دخلتها سفن قوى التغيير. 4. تدخل العناصر الخارجية بشكل مباشر أو من خلال القوى الموالية لها من مؤسسات محلية ما تزال قائمة، أو حتى عن طريق فلول أفراد عادوا للساحة بحثاً عن موطئ قدم جديد بوسعهم من خلاله ممارسة أدوار فقدوها، أو عن طريق تجنيد قوى جديدة لها مصلحة مباشرة في الارتباط بتلك القوى الأجنبية. يقود ذلك إلى تعزيز مكامن القوة لدى الجهات المناهضة للتغيير والمستعدة، بعد أن بات من مصلحتها استمرار ارتباطها بذلك الأجنبي، وتوسيع مساحة ما هو مشترك معه، من أجل استعادة مصالحها ونفوذها أن تبذل قصارى جهدها لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو منعها من الحركة. خطورة حالة اليأس هذه المشوبة بنزعة الاستسلام تأتي من امتلاكها الذاتي لمقومات تحولها إلى فيروس سياسي ذاتي ينتشر في صفوف الأفراد، ويتسرب إلى إدارات مؤسسات المجتمع المدني، ودوائر صنع القرار، ويتوالد بشكل تلقائي كي يشجع مجموعة من السلوكيات الفردية، والأعراض الجماعية، وجميعها سلبية، تتولد بشكل تلقائي، وتنمو بآليات فطرية، تتمظهر على نحو جلي في المعالم التالية: 1. إغراء عناصر الحرس القديم في الأنظمة التي مستها رياح التغيير، وتشجيع قواه التي ما يزال البعض منها محافظاً على أمله في استعادة زمام المبادرة، على الخروج من جحورها التي لجأت إليها لحماية نفسها من رياح التغيير، وإفساح المجال أمامها لتقدم الصفوف كي تمارس أنشطتها التخريبية من جديد، مستفيدة وإلى أقصى درجة من حالة الاندهاش التي تشل حركة القوى التي تصدرت مسيرة حركة التغيير التي عمت العديد من البلدان العربية منذ مطلع العام 2011. 2. نشوب الصراعات بين مختلف القوى الطامحة للتغيير، والتي جمدت خلافاتها الثانوية أثناء مرحلة الصراع ضد الأنظمة القائمة، بل وحتى خلال مطاردتها لفلولها التي حاولت رص صفوفها وشن معارك مضادة، لكنها لم توفق في تحقيق مآربها. لكن مجموعة الانتصارات، والبعض منها كان سريعاً، لم يسمح لقوى التغيير ولم يمدها بالوقت الكافي الذي تحتاجه كي تعيد النظر بتؤدة في مواطن الخلافات الثانوية، وتضع حداً لها أو إبقائها في نطاقها الثانوي، الأمر الذي سمح لتلك الخلافات أن تطفو على سطح الساحة السياسية، والعمل على خلخلة الوحدة التي نعمت بها تلك القوى في مرحلة النضال ضد الأنظمة القائمة. 3. تنامي لغة الانتقادات السلبية التي باتت تسيطر على خطاب الشارع السياسي العربي، والتي باتت تشكك في قدرة القوى الممسكة بالحكم اليوم أو تلك التي تأمل في الوصول إليه على إحداث التحول الإيجابي المطلوب الذي لا يقتصر على إزاحة النظام القديم من الطريق فحسب؛ بل يقتضي إشادة النظام الجديد الذي يحل مكانه ويكون البديل الصحيح له. 4. انتشار العناصر الانتهازية الطفيلية التي توفر لها حالات مثل التي تمر بها البلدان التي هبت عليها رياح التغيير أن تمارس أسوأ أشكال التطرف، ورفع أخطر شعارات المزايدة التي تدفع بقوى التغيير نحو مواقف متشنجة إزاء القوى الأخرى ومتطرفة في البرامج التي تتبناها، الأمر الذي يقود، كما نشاهد اليوم، إلى تجريدها من كسب ثقة القاعدة الجماهيرية التي هي في أمس الحاجة في أن تلتف حول برامجها. يزداد فيروس القنوط السياسي الذي نحذّر منه خطورة عندما يتوهم الجسم العربي خلوه منه، ويتمادى في ارتكاب الأخطاء التي أشرنا لها، معتمداً على بعض مظاهر القوة التي لم يصادرها منه هذا الفيروس الذي يقف متربصاً بذلك الجسم متحيناً الفرصة الملائمة للانقضاض عليه، وتجريده من المكاسب، حتى تلك الصغيرة منها التي حققها، رغم التضحيات الضخمة التي قدمها. ففيروس القنوط السياسي، عديم الإحساس، سرطاني السلوك، يتلذذ بتعذيب ضحيته وإنهاكها قبل أن يجهز عليها.