^  قال: لا يبدو أنكم ككتاب معنيون كثيراً بما يعانيه الناس من هذه الحرب الطاحنة المسعورة المستعرة أبواقها في كافة الفضاءات، الدينية والإعلامية والشوارعية، الحرب المريضة التي يتحول فيها المسلم عدواً للمسلم (مع أن المسلم أخ المسلم) فيندفع بفضل بركاتها المراهقون والأطفال إلى الحرق والضرب وإلقاء زجاجات النار الحارقة أو اقتحام المحلات التجارية الآمنة بمنطق قطاع الطرق، فأين دور الكتاب الذين يفترض بهم أن يكونوا ضمير الأمة، وألا ينخرطوا في المعارك الوهمية التي تؤجج الطائفية والحقد وتشرعهما وتبررهما لأفواج الشباب الضائع التائه في هذه المعركة ضد الوطن وضد أنفسهم؟ قلت: وهل مازال للكتاب صوت؟ فقد تم اختطاف الأصوات وتصنيفها وتعليبها في صناديق طائفية منذ أن اختطف البعض الجامع والجمعة والفتوى، ومنذ تحولوا من دعاة خير وسلام ووئام إلى أصحاب برامج سياسية وأيديولوجيات جاهزة ومصنفة، فلم يعد منذ تلك اللحظة للكتاب الذين رفضوا ركوب موجة الحرب الطائفية، إلا صوت خفيض هامشي، بعد أن انخرط البقية في الأحزاب المتقاتلة في الشوارع وفي الفضاءات الإلكترونية وعبر الفضائيات الطائفية التي تجاوز عددها في سنة واحدة 50 قناة حسبما يروي لنا العارفون. أما عن الكتابة يا صديقي فتلك قصة أخرى في زمن استعار النار والحقد وفقدان بوصلة العقل، حيث يكتب الناس عن الواقع والأحداث والمظاهرات والاضطرابات والحرائق بشكل مختلف لأن الكتابة اختلاف، والاختلاف حق مشروع، ولكن المشكلة تبدأ من تزييف الوقائع نفسها وفقاً لمسطرة الطائفية وميزان الأيديولوجيا، بحيث يتعذر الاختلاف حولها وفيها، ولن يكون مهماً في ضوء تلك العملية اللاأخلاقية أن يهتم الكتاب بما يمكن أن يقلق الناس -كبشر عاديين غير مشحونين بالكراهية- كأن يختنق الناس يوم عطلتهم الأسبوعية، يوم الجمعة تحديداً حيث يتربص بهم المتربصون يخططون لتلك العملية الخانقة طوال أيام الأسبوع.. هنا يا صديقي يصبح التلاعب بالمعلومات والوقائع عملاً نضالياً من الدرجة الأولى (وبل وبطولة يستحق مفتعلوها أن يكونوا ضمن قائمة المناضلين) تحت تأثير الدوافع الشخصية والعصبية الآنية بكافة ألوانها، في حين أنها عمل إجرامي واضح وبسيط في أبسط تعريفاته، يستهدف مستقبل الأجيال، فلكم تقاتلت قبائل وشعوب وأمم بسبب الاختلاف في تأويل الوقائع على الأرض، منذ اللحظات الأولى للتدوين وتزييف التاريخ ليس بدعة مستحدثة تتشوّق إلى مذاقها الألسنُ، إنه حرفة دأبت البشرية على تناقلها وتوارثها، مثلما توارثت وتناقلت حرفاً أخرى، لكن أقسى ما في الأمر هنا هو انخراط المثقف والكاتب، (عن وعي أو عن غير وعي) في لعبة الزيف والتزييف باسم للوعي دون إدراك للعواقب الوخيمة لصناعة الحروب الحاضرة والقادمة ووضع خرائطها وخرائبها معاً! إن الاختلافات بين الناس شأن إنساني، وأنه من الأهمية بحيث يؤدي الاستغناء عن مزاياه إلى الموت الجماعي، ولذلك فإن قيمته لا تكمن فقط، في تأكيده على قدسيته كحق إنساني قبل أن يكون دستورياً، بل في قدرته -أي هذا الحق- على ألا يكون عائقاً أمام فوز الإنسان بحقوق أخرى كثيرة لا معنى للحياة الكريمة بدونها، مثل حقه في الحرية وفي استنشاق الهواء النقي في الشارع، وفي الجلوس إلى مقهى مفتوح يدخن سيجارة أو يشرب كوباً من القهوة، ومثل حقه في أن يستمع إلى التراتيل والترانيم والموسيقى دون أن يزعج الآخرين، وحقه في أن يقول لا وفي أن يقول: نعم، وفي حقه أن يجلس وأن يقف وأن ينام وقت يتعب وأن يسافر وأن يحج ويعتمر ويلبس ما يريد من اللباس الذي لا يؤذي العيون والسياق العام، وقبل ذلك حقه في أن يكون إنساناً كامل الإنسانية.