^  ما هي سياسة الاجتثاث؟ هل هي فكر أم انتقام سياسي؟ وإلى ماذا تهدف؟ وهل تتعارض هذه السياسة مع مبادئ حقوق الإنسان؟ أم أنها تتعارض مع المفاهيم الديمقراطية؟ في المشهد السياسي نقرأ مصطلح “سياسة الاجتثاث”، وهو من المصطلحات الجديدة التي حلت في الوطن العربي وفي منطقة الشرق الأوسط، وهو ليس فكراً ولا مبدأً، ولا ينتمي إلى أي عقيدة سياسية، بل هو أحد آليات انتقام السلطة الجديدة من السلطة القديمة ورموزها، بهدف استبعادهم وعزلهم عن العمل السياسي. فهل كل مَن عمل مع النظام السابق وفي أي دولة يُعتبر مشروع اجتثاث؟ فإذا كانت الإجابة نعم.. فجميع أبناء البلد عملوا في جميع مؤسسات الدولة التي كان يُديرها النظام السابق؛ فهل يتم اجتثاث كل هؤلاء ومنعهم من العمل المؤسسي ومن ممارسة حقوقهم السياسية؟ أليس مِن بين هؤلاء الخبراء والفقهاء والمبدعون والعاملون المُخلصون الذين قامت على أكتافهم جميع مؤسسات الدولة؟ أم النظام الحاكم الجديد يُريد بناء الدولة بفكره وبنهجه وبشعبٍ جديد؟ في كل تجربة سياسية أخطاء، ولا عمل حقيقياً وجاداً بدون أخطاء، ومَن لا يخطئ لا يُبدع، فلماذا لا نجتث الأخطاء ونبقي على الأطر الصحيحة التي بناها الحُكم السابق؟ ولماذا لا نستفيد من خبرات جميع أبناء البلد؟ فالاجتثاث في حقيقته هو تدمير لطاقات الإنسان المُبدع في كل المجالات، وخلعه من جذوره الوطنية، وتهميشاً له وطعناً في حقوقه السياسية والحقوقية التي أكد عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الإنسانية الدولية اللاحقة به (حقه في الحياة، ممارسة الحقوق السياسية، المواطنة، ..). فممارسة سياسة الاجتثاث لا صلة لها بالعمل السياسي وهي مرادفة لسياسة الانفراد والغدر والتعصب السياسي والديني والمذهبي ووضع كل إمكانات الحُكم السياسي الجديد لتحقيق هذه الأغراض والأهداف، بِدءًا من تسييس الوزارات والتعليم والثقافة والبحوث والمشاريع الأخرى، مما يؤدي إلى اجتثاث كل مشروع عربي قومي أصيل. فبعد احتلال العراق عام 2003م عملت حكومات الاحتلال المتعاقبة على ممارسة هذه السياسية بكفاءة عالية، فقامت باجتثاث العراق من هويته العربية ومن قياداته وكفاءاته العلمية والعَملية، وتفريغ أهله من الأرض وتهجيرهم في داخل الوطن وخارجه، وتناست هذه الحكومات بأن هوية العراق العروبية راسخة في أعماق أرضه الرافضة لكل فكر شعوبي انعزالي. وهذه السياسة أدت إلى تغييب الحوار مع أي فكر غير فكر حكومة الاحتلال، ومع كل ممارساتها مع أرض العراق وشعبه وفكره إلا أن العراق كنخيله ذات الجذور الراسخة التي لا تهزها رياح سياسة الاجتثاث. واليوم في بعض الأقطار العربية التي تلقحت برياح الربيع العربي بدأت تستورد هذه السياسة وتطبقها على مَن يرون بأن ممارسة هؤلاء لحقهم السياسي يُعرقل أجندتهم السياسية والدينية، فبدأت الغُلبة المُحتكرة لثمرات الربيع العربي في خندقة نفسها لوضع العثرات أمام كل مَن ساهم في العمل المؤسسي والسياسي للحُكم السابق في هذه الأقطار. وهم بذلك لا يتشاطرون الرأي مع أحد، ويعتقدون أن حل أي حزب سياسي سابق سواء كان حاكماً أم مؤتلفاً معه هو انتهاج ديمقراطي صحيح وتناسوا بأن الديمقراطية هي مشاركة سياسية قبل أن تكون انتخابات وترشيح وفوزاً بالأغلبية. فعلى سبيل المثال لا الحصر.. فقرار ممارسة الاجتثاث في مصر الأخير ضد عدد من المرشحين لرئاسة الجمهورية لا يصب في مصلحة الوطن المصري وثورته، وتناست فئة الغلبة بأن ثورة 25 يناير أدت فقط إلى تنحية رئيس الجمهورية دون التأثير على بنية النظام السياسي التحتية والتنظيمية التي ما زالت تمتلك نفوذاً قوياً في داخل مؤسسات الدولة المصرية. وكان من الممكن لهذه الفئة أن تغير مفردات الخطاب السياسي السابق وتبني رؤية جديدة لخطاب جديد دون إقصاء وتهميش الآخرين، والعمل على محاربة ما تم إفساده في الحياة المصرية، وتهيئة مناخ صحي يعمل على إحداث حالة من الحراك السياسي الإيجابي تضمن المشاركة لجميع القوى السياسية المختلفة دون استبعاد أي منها من المشهد السياسي. فليس من السهل هدم بناء استمر لمدة ثلاثين عاماً في موسم انتخابي واحد. إن سياسة الاجتثاث ليست آلية ديمقراطية بل هي إحدى وسائل القمع السياسية، وينتج عنها آثار سلبية تؤثر كثيراً على المشهد السياسي في داخل أي دولة، وهذه السياسة تؤدي إلى إحداث خلل كبير في التوازن القائم بين القوى السياسية داخل الدولة، وتؤدي إلى اختراق سياسي إقليمي ودولي في شؤون هذه الدولة وتلك. وبدلاً من هذه الممارسة على الغُلبة أو نظام الحُكم الجديد أن يتبنى خطاباً سياسياً مرناً يعمل على تحقيق المشاركة الديمقراطية ويتفاعل مع الأحزاب السياسية الأخرى القديمة منها والجديدة والاستفادة من طاقاتها الفذة وتجاربها السياسية دون أية منافسة سياسية أو تحقيق السيطرة الانفرادية على المشهد السياسي، وهذا النهج يتطلب إرساء وغرس ثقافة العمل الجماعي والشفافية في العلاقة بين كافة الأحزاب والقوى السياسية. والاستفادة من الطاقات الوطنية التي تمتلك رصيداً متميزاً من الخبرة السياسية والاقتصادية والتنظيمية. وأن أي ثورة حقيقية تهدف إلى ترسيخ حياة ديمقراطية سليمة وإقامة دولة يعيش فيها جميع أبنائها على قدم المساواة بدون استثناء أحد. أما سياسة الاجتثاث والتهميش والإقصاء فإنها نذر شؤم على الدولة وشعبها، وسيعرقل تنميتها، ويجلب إليها القلاقل والاضطرابات السياسية، وسيُحقق لأحزاب الغلبة مكاسب وامتيازات سياسية ديكورية ضيقة بجانب خسارة الوطن للعمل الجماعي السياسي المشترك، وبالتالي فإن الحُكم الجديد المتمثل في فئة الغلبة سيقلص اهتماماته على الصراع الداخلي دون الاهتمام بقضايا الدولة الحيوية وعلاقاتها الخارجية من إقليمية ودولية، الأمر الذي يدخل هذه الدولة في أزمات عديدة داخلية وخارجية. وأخيراً فإن سياسة الاجتثاث هو بمثابة حصار سياسي مطبق على مجموعة من الأفراد منعاً لممارسة حقهم في العمل السياسي الطبيعي والمكفول في وطنهم، وهي سياسة لا تمت للدين وللأخلاق ولا للمبادئ الديمقراطية والعدالة الإنسانية بأي صلة، بل هي انتهاك لحقوق الإنسان ولمبادئ القانون الدولي، ورفض لقبول التعايش مع الآخر