كنت أتحدث مع صديقين حول قضية تشغل بال الإنسانية منذ الأزل، إنها “الروح”، وبدأنا من حيث لا ندري بالآيات والأحاديث، وما جاء ذكره على لسان الفلاسفة، وتطرقنا إلى الديانات الأخرى وتشعبنا هناك في بعض القضايا غير ذات الصلة، ثم أمسكنا مجدداً بخيوط “الروح”، تارة مسلّمين بأمرها، وأخرى ظانين بقدرتنا على الوصول إلى بعض أسرارها، ولم ننس خلال ما تقدّم آراء بعض الكتاب وأصحاب العقول النيّرة. وكما يحدث معكم جميعاً، تفقدنا جميع الأزهار في الحديقة، وسقيناها، ووضعنا حول بعضها سياجاً، وحررنا البعض الآخر، إلا أن قليلاً من رائحتها رافقنا إلى باب المقهى، حيث ختمنا الحديث بقضية تعدد الزوجات وأهمية ذلك عند الرجل الذي “لا يقنع بواحدة”، على حد قولهما، وضوضاء المكان لا تنفك تفارق أذهاننا، وكأنها موسيقى تصويرية تشكل خلفية جيدة لمثل ذلك الحديث.
بعد انتهاء الجلسة، بدأت رحلة العودة إلى البيت، وبدأت أنظر إلى الكلمات والجمل التي قلناها، والخطوط الحمراء التي تجاوزناها، وإلى أي مدى يصل العقل البشري في التفكير ثم يقهره الغيب، ويبدأ بالترحال مرة مع الغجر وأخرى مع العقلاء والنوابغ. وكغيرنا من العرب لم تكن النتائج على قدر أهمية إبداء الرأي، وطرح الأفكار، واختلاف وجهات النظر، وجمع كثير من عناوين الكتب لإبهار الآخرين في جلسة النقاش غير المجدية، حيث لم نصل فيها إلى نتيجة أو يقتنع أحدنا برأي الآخر.
رغم أن ثلاثتنا على قدر من الثقافة والعلم، فإنني تذكرت طاولة مطبخ بيتنا حين كنا نجتمع حولها أنا وأمي وإخوتي، تترأس جلسة “مالناش دعوة” جدتي، حيث كنا نتناول حياة الأقارب والأصدقاء، وأخبار الجيران، ويأتي ذكر الكثير من الأموات والأحياء، أعرف بعضهم، وأجهل أمر الكثيرين، تضحكنا قصة وتحزننا أخرى، وتختلط الدموع، فلا ندري هل كانت من الضحكات أم الأحزان!.. بعد أن نكون قد مررنا ببلاد الشام وشبه جزيرة العرب، متفقدين أحوال أهلنا في الأمريكيتين، عائدين إلى مطبخنا الجميل لتختتم جدتي الجلسة بعبارتها المعهودة “يا ستي شو بدنا بالناس.. مالناش دعوة”..
ما نفتقده في عالمنا العربي هو النقاش الموضوعي الذي لا يشت عن محور القضية موضوع النقاش، ولا يقاطع أحدنا الآخر، وتبني وجهات النظر المقنعة دون شعور بالهزيمة أو الجهل، والأهم أن لا تصبح الجلسة مع فيصل القاسم، حيث لا يمكنك حينها أن تسمع أحداً.. فقط تتكلم وتتكلم.. إلى أن تبدأ الشتائم، ومن ثم رمي بعض الأشياء، مثل: طفايات السجائر، التي أخذ بطولتها في إحدى السنوات مجلس النواب الأردني، وصولاً إلى اختراق طاولة الاجتماعات و«النط” من فوقها لتسديد بعض اللكمات. وبهذا وصلنا إلى ختام النقاشات العربية التي نتمنى أن تأخذ مساراً مختلفاً، ويا حبذا أن تكون البداية من نواة المجتمع، والمؤسسات التعليمية، التي بإمكانها أن تنشئ جيلاً يحاور ويناقش بموضوعية.
مريم ريان