كتبت - سميرة سليمان: بكل الحزن ودعت لبنان مؤخرا، “عملاق الصحافة العربية” غسان تويني الذي رحل عن عالمنا مؤخراً، بعد صراع طويل مع المرض، وقد شيع الراحل إلى مثواه الأخير، ونعاه رئيس مجلس النواب نبيه بري قائلاً: “سيلتقي غسان تويني من افتقدهم في حياته وأحبهم، أما نحن فسنفتقده دائماً لأننا كنا نحبه وأنا أحد هؤلاء. اعتقد أن ما تركه غسان تويني هو خالد”. لم تحزن لبنان فقط لأن الفقيد هو أحد أعمدة الصحافة هناك، لكنها اليوم ودعت الإنسان قبل الصحافي والسياسي، إنسان كان الحزن لم يفارقه بل ويسكن قلبه، كيف لا وقد ودع أحباءه ووارهم الثرى ليظل بعدهم يعزف أنشودته الحزينة وحده. لعل الضربة الأقسى التي تلقاها كانت العام 2005 عندما اغتيل نجله النائب والصحافي جبران تويني في تفجير سيارة مفخخة، ويروى صحافيون في (النهار) أن غسان تويني الذي كان في باريس يوم مقتل ابنه وعاد في الليلة نفسها إلى بيروت، اتصل بفريق التحرير ليملي عليهم عنوان الصفحة الأولى في اليوم التالي، وهو العنوان الذي صدرت فيه الصحيفة على ثمانية أعمدة “جبران لم يمت والنهار مستمرة”. وبعد أن كان سلم إدارة الجريدة إلى ابنه جبران توينى، لينصرف إلى مؤلفاته وتقاعده، عاد وتسلمها بحماس سنوات الشباب وبشغف المهنة ذاته، قبل أن يسلمها مرة أخرى لحفيدته نايلة ابنة جبران. الحزن يغلف حياته امتزجت حياة غسان تويني بمآس عدة، لدرجة وصف بأن قدره يشبه “أبطال التراجيديا الإغريقية”، فقد توفيت ابنته نايلة وهي في السابعة بمرض السرطان، وما لبثت أن لحقت بها زوجته الشاعرة ناديا تويني بالمرض نفسه، وبعد ذلك بسنوات، توفى نجله مكرم في حادث سيارة في فرنسا، وقتل نجله الصحافي والسياسي جبران تويني في عملية تفجير استهدفته في ديسمبر 2005، وقبل ثلاث سنوات، توقف غسان تويني عن كتابة افتتاحيته في جريدة (النهار) بسبب العجز والمرض. وقف الراحل متحلياً بالشجاعة محثاً على الصفح، أثناء مراسم تشييع ابنه الحبيب - الذي تم اغتياله - إلى مثواه الأخير، وكما يروي غسان تويني بنفسه في كتابه : “.. قلت بصوت منخفض جدّاً، وبعكس كلّ التوقّعات، إنّني لا أدعو إلى الثأر، وهو ثأر لا قدرة لي عليه أساساً، كما إنني لا أؤمن به. وبطبيعة الحال طالبت بالعدالة كما أوصيت بالصفح: “ فلندفن الحقد والثأر”. وأضفت أنني آمل أن تكون عملية الاغتيال هذه هي خاتمة سلسلة الاغتيالات وأن يجد لبنان سبيله إلى السلام. وددْت أن أصرخ: “كفانا دماً!” ورحل «فجر النهار» كتب غسان تويني آلاف الافتتاحيات في صحيفة (النهار)، وكلفه بعضها دخول السجن بسبب جرأته ومواجهته السلطات في عز نفوذ ما كان يعرف بـ«المكتب الثاني” - المخابرات العسكرية - في الحياة السياسية على الدولة في حقبة الستينيات وأوائل السبعينيات. وسربت جريدة (النهار) بنود اتفاق القاهرة الشهير السري بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي أحدث هزة في الساحة اللبنانية، وتسبب بسجن مرة أخرى لرئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير غسان تويني العام 1973م، بتهمة “إفشاء أسرار الدولة”. “رحل.. فجر النهار”، هكذا ودعت أمس الجمعة، صحيفة النهار اللبنانية على صفحتها الأولى ناشرها غسان تويني، ومؤخراً نشرت الجريدة مقالات تأبينية بأقلام عدد من الكتاب والإعلاميين والسياسيين، وتحدثت المقالات عن مهنية غسان تويني وشجاعته الأدبية ونزاهته الفكرية ومواقفه الصريحة وصداقته للشعب الفلسطيني وكذا عن ثقافته الواسعة وشغفه بالتراث. كذلك خصصت الصحف اللبنانية حيزاً مهماً من صفحاتها للحديث عن وفاة الصحافي والدبلوماسي غسان تويني، معتبرة أنه كان “أسطورة الصحافة العربية”. تحت عنوان “غسان تويني: الذي كتب نهاره بحبر من نور” قالت جريدة “السفير” إن الراحل كتب على امتداد ستين سنة افتتاحيات تساعد على تحديد الطريق إلى المستقبل”. وقالت جريدة “المستقبل” إن “قلمه يختزل حداثة منطلقة من إمساك لغات عدة من تلابيبها، فكره يعتصر ثقافة نادرة، ثقافة نبيلة من النوع الذي ينتجه احتكاك ما تقرأ وتتعلم مع ما تعيش وتختبر”. وخصصت الجريدة صفحات لـ«رحيل أستاذ سر الصحافة الجميل” و«عميد الصحافة” الذي اعتبر رئيس وزراء لبنان الأسبق سعد الحريري أنه “اعتلى منصة الحرية ليكون أبرز حراسها”. وفي جريدة “الأخبار” كتب الشاعر أنسي الحاج أن غسان تويني كان “الصحافي وأكثر. له كتب، بل له مجموعة شعرية بالفرنسية. وله ماض كأستاذ جامعي، وعمل نائباً ووزيراً وسفيراً، لكن حضوره كان حضور الصحافي، وحضوره الصحافي كان مشحوناً بالسياسة والثقافة والعلاقات الواسعة”. وقالت جريدة “الحياة” اللندنية في طبعتها اللبنانية إن “الموت غيّب أمس أحد عمالقة الصحافة اللبنانية والعربية ورواد تطويرها الذين ارتقوا بها إلى مصاف الصحافة العالمية”. ومن عائلته قالت حفيدته النائبة نايلة تويني: “صحيح أن جدي غاب عن الكتابة منذ ثلاث سنوات، لكنه كان موجوداً معنا، فكنا نجتمع حوله، ونشعر بوجوده. والقوة التي منحنا إياها نستعيدها في كل لحظة، فعلينا أن نكون أقوياء في أوقات الشدة، وصحيفة (النهار) مستمرة”. صحافي بدرجة سياسي دخل تويني البرلمان ولم يكمل الخامسة والعشرين. وشغل مناصب وزارية مهمة. وكان مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في أوقات عصيبة تخللها خصوصاً اجتياحين إسرائيليين. وينظر إليه على نطاق واسع على أنه “عرّاب” القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 1978م والذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان، الأمر الذي لم ينفذ حتى عام 2000. يقول الراحل عن نفسه : قبلت بتولّي منصب سفير لبنان في الأمم المتّحدة لأنّه سمح لي بالابتعاد عن السياسة الداخليّة. وكنّا نعيش في أوج الحرب “الأهليّة”، أو بعبارة أخرى في خضمّ الصراعات العربيّة - العربيّة والإسرائيلية - العربية التي نُقِلت إلى الساحة اللبنانيّة. وحتى الآن لم يتغيّر شيء فعلاً من وجهة النظر هذه. كما أردت الانسحاب لأسباب صحّية، فقد صرت أعاني كثيراً في حياتي، وكما ذكرت سابقاً كانت حالتي الصحّية دقيقة، لكنّ ذلك لم يعوّقني قطّ عن أداء واجبي. يواصل: لأسباب صحية إضافة إلى بعض الإرهاق، اتخذت قراري العام 1984 بأن أنأى بنفسي عن الحياة السياسيّة الداخليّة. كنت قد فقدت ناديا ودوافع استمراري في ما شرعت فيه حتّى ذلك التاريخ. ولا يمكنني أن أحكم في ما إذا كنت قد “نجحت” في السياسة. كنت على الأرجح قد بلغت أقصى ما يمكنني بلوغه في مسيرتي كواحد من أبناء طائفة الروم الأرثوذوكس، على أساس أن حقوقي في التمثيل كانت محدودة بموجب النظام، إذ إنّ أعلى منصب يمكن أن يبلغه شخص من طائفة الروم الأرثوذوكس هو نائب رئيس مجلس النواب أو نائب رئيس مجلس الوزراء، وقد شغلْتُ كلا المنصبين في مرحلة مبكّرة من مسيرتي السياسيّة. وهذا يعني بشكلٍ ما انسداد أفق الطموحات أمامي، ممّا سهّل علاقتي طبعاً بالسلطة. فعندما كنت أتفاوض مع أيّ من رجالات الدولة كان يعلم أنّه لا يستطيع أن يقدّم لي ما لم يسبق لي أن حصلت عليه، ويدرك أنّني لا أتصرّف انطلاقاً من خلفيّات معيّنة ولا من طموحات لا يبيحها لي الدستور. وهذا من جهة أخرى ما يبرّر انكفائي وشبه التقاعد الذي أعيشه اليوم. دعوا شعبي يعيش مزج الرحل بين الصحافة والسياسة، دخل المجلس النيابي صغيراً في انتخابات العام 1953م، فانتخب نائباً عن عاليه ثم بيروت، ليخوض بعدها غمار العمل الحكومي، في حكومتي صائب سلام، ورشيد كرامي. كما اختبر العمل الدبلوماسي، فعين سفيراً للبنان في الولايات المتحدة العام 1967م، بعدها بعشر سنوات توجّه إلى الأمم المتحدة ليشغل منصب سفير لبنان في المنظمة الدولية، وهناك أطلق صرخته الشهيرة “دعوا شعبي يعيش”. في وقت كان الاقتتال الطائفي قد نخر عظام هذا الشعب. انتقد تويني الناصرية وكتب في (النهار) قائلاً: في مرور خمسين سنة على “ثورة 22 يوليو”، ألَم يحن، في هذه الذكرى الخمسين، أوان تحرير “الحرية” التي استعبدتها الناصرية والأنظمة التي انبثقت منها أو بها تشبهت؟، أنظمة ربما غُفرت لها خطيئة عجزها عن استعادة الأرض المحتلة من عدو تزداد قوته... ولكن آن لنا أن نعلن بإيمان وقوة أن التاريخ لن يغفر للناصرية ولا لأنظمتنا الممجّدة لها استبدادها بالإنسان العربي إلى حد جعلنا، في سلّم الأمم، غاية في التخلّف لأننا بلا حرية ولا معرفة...ترى، من يحررنا الآن من جهلنا والجهالة، فندرك أن لا حياة لإنساننا، ولا مستقبل لأنظمتنا إذا لم نجعل حرية الإنسان طريقنا لتحرير الأمة. من كلماته كتب في رثاء ابنه الكثير في عبارات تنضح بالأسى والألم لفقدان الابن، وتشي برقة وعطف الأب حين قال: “..تستشهدُنا من بعدك كلّ نهار..يا ابني، يا حبيبي!” ، ويقول: أمضي، في الفراغ الذي تركتَ من بعدك في دنيا الحياة، أسألك: لماذا، لماذا؟ أسأل طيفك الذي يحوم حولي ويُثقل الفراغ بصوتك الذي لا يهدأ، مروراً بقَسَمك حاملاً صداه هدير جماهير “ساحة الشهداء” إياها، وكأنها امتدّت وتمتدّ بنا وبالسابقين واللاحقين من قرن إلى قرن: لماذا لم تخف من الموت؟ لماذا كسرت التنبيه وهرولت إلى الشهادة وكأنك على موعد مع القتلة الذين كنا وكنتَ تعرف أنهم ينتظرونك؟ لماذا ذلك الزهد بالذات وبالحياة؟. أحمل على شفتيّ وهج القبلة التي لم أجد جبينك لأطبعها عليه قبل أن يلفّك التراب، ولا تركوني ألمس وجهك الضاحك لأغسل عنه بدموعي آثار البارود الذي أحرقَك وأحرقَ قلبي وقلوب محبيك والمتعبّدين للوطن والحرية كلهم. لا عزاء لنا بعد... لكن العزاء آتٍ، لأن ليس في التاريخ - ولا القدر - منطق أو ناموس يسمح بأن تذهب الشهادة سدى... فاصبر وانتظر في كنف الحب المؤمن الذي يُدفئ غربتك، أعرف...لن تنتظر إلى الأبد، لأن الأبدية صارت خلفنا ووراءك. عهد علينا يا ابني كل نهار: لن نستسلم للنار مهما اشتعلت! ولن نخاف الموت الزائل أمام دفع الحياة”. وعن فلسطين كتب: “هل كنا نحتاج إلى نصف قرن ويزيد من القمم العربية المتكاملة حيناً ثم تتناطح أحياناً، حتى ندرك أن القضية الفلسطينية وحدها تبقي اجتماعنا... نقول “القضية” ولا نقول الأرض، لأننا نستمر كلما حاولنا استعادتها، نجهز عليها تبديداً وتقسيماً”. مؤلفاته ترك الراحل عدة مؤلفات من أبرزها: “اتركوا شعبي يعيش”، “نزهة العقل”، “سر المهنة... وأصولها”، “الثقافة العربيّة والقرار السياسي”، “البرج، ساحة الحرية وبوابة المشرق”، “حوار مع الاستبداد”، “الإرهاب والعراق قبل الحرب وبعدها”، وغيرها من المؤلفات، وحمل كتابه الأخير عنوان “لندفن الحقد والثأر، قدر لبناني”، وصدر باللغة الفرنسية بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جان فيليب دو توناك، وهو عبارة عن سيرة ذاتية تروي محطات مهمة من حياة الصحافي والسياسي والدبلوماسي والإنسان.