كتب - حسين التتان وطارق مصباح:
توفى ثلاثة عمال في موقع عملهم، وتوفى عشرة في بيت يقطنون فيه، ليست هذه هي الحوادث الأولى في تاريخ إصابات العمال وليست الأخيرة على ما يبدو في ظل غياب الرقابة التشريعية والحماية القانونية وأمور أخرى سنتعرف عليها في هذا التحقيق الموجز حول حماية العامل البحريني والأجنبي من مخاطر العمل بعد الأخبار التي الأخيرة الخطرة التي طالعتنا بها الصحف.
معاناتهم الصامتة
ليس هناك من فئة مرشحة للخطر في مواقع عملها، كتلك التي تعمل بين الحفر وفوق (السقلات)، وليس هناك من فئة عمالية عرضة للتسريح لو تفوهت بكلمة واحدة ضد منشآتها أو أرباب عملها كشريحة العمالة الآسيوية التي تعمل لكسب لقمة العيش، ومن هذا المنطلق، استمعنا إلى بعض معاناة هؤلاء، لكن من دون التعرض لأسمائهم أو حتى هوياتهم، كما طلبوا منَّا.
العامل الآسيوي (م. ق) يعمل في أحد المشاريع الخاصة بالصرف الصحي يقول: هنا ومن داخل هذه الأخاديد العميقة لا أحد من المسؤولين في شركتنا يسأل عنَّا أو حتى يكلف نفسه عناء زيارتنا، فالباص يوصلنا عند الصباح، وفي المساء يأتي ليأخذنا، وبين الفترتين فإن الكثير من المخاطر تعترض حياتنا يومياً، فليست هناك من توجيهات لنا، سوى أن نلبس خوذة العمل. أما الأمور الأخرى فنحن من يجب أن ننتبه إليها، فالحفر العميقة خطرة للغاية، وأن أي سقوط فيها يكلفنا حياتنا.
آخر يعمل في حقل ركوب أعلى (السقلات)، طلبتهُ للحديث حول مخاطر عمله فتردد، ثم وافق شريطة عدم تصويره أو ذكر اسمه، يقول (ر.س): كما ترى، فإن وسائل السلامة معدومة في غالبية المنشآت المتعلقة بالبناء، عدا الشركات الكبرى، فالسقلات قديمة للغاية، وهي التي إن سقطت تسقط بالكامل. أما الألواح التي نركب فوقها، فهي ألوح غير صالحة لتحمل أوزان إضافية غير أوزاننا، ولو تحدثنا عن توفير أدوات الإسعافات الأولية لو أصابنا أحدنا جرح، فإن المقاول لا يعبأ بهذه الأمور، بل ربما لو سقط أحدنا فإن صاحب المقاولات ينذره، مسوغاً ذلك بأنه من المفترض أن يكون العامل حذراً أثناء عمله. العامل (س.ع) كان يحمل في يده مطرة ماء وأوان بلاستيكية لحفظ الطعام، وحين سألناه عما يحمله بيده قال: هذه الأمور تحكي معاناتنا اليومية، فنحن نعمل في مشروع إنشاءات لحفر عميقة، ونظل طوال اليوم في موقع العمل، ولهذا فالمقاول لا يوفر حتى الماء لنا، على الرغم من الحر الشديد، ونحن نشتري الماء لوضعه في المطرة.
ويضيف: في الحقيقة لا تتوفر أي شروط للسلامة في مواقع عملنا، فنحن نعمل في الشمس من دون وجود مظلات تقيناً حرارتها، كما أننا نعمل وسط الأحياء السكنية، فنتعرض في كثير من الأحيان إلى مضايقات، خصوصاً من الأطفال الذين يرموننا بالحجارة ونحن بين الحفر العميقة، وهناك من الأهالي من يصب جام غضبه علينا بسبب طيلة الفترات التي يستغرقها العمل وأصوات المعدات، قرب بوابات منازلهم، خاصة في الأحياء الضيقة جداً، ويفترض أن يوفر لنا المقاول، الماء والطعام، والحراسة لضمان سلامتنا، وكذلك توفير مستلزمات السلامة كافة. وحين سألناه عن وجود حملات تفتيشية ومراقبة من وزارة العمل، أكد عدم علمه بهذا الشأن، وهو يشير إلى ضعف احتمالية هذا الأمر، لأنه لم ير منذ عمل بالموقع أي مفتش زارهم، أو حتى سألهم عن وضعيتهم.
العامل (ن.س) يرى عكس ذلك، فهو يؤكد لنا أن صاحب المنشأة التي يعمل فيها، توفر لهم مستلزمات السلامة كافة، وربما ذلك يعود لأنه يعمل في شركة عملاقة لها تاريخها في البحرين، ومع ذلك فهو يقول: على الرغم من صحة الإجراءات التي يتبعها المقاول، إلا أن جميع الاشتراطات التي يوفرها في مواقع العمل، هي ليست نفسها التي أكدت عليها المواثيق الدولية للمنظمات المختصة بحقوق العمال.
هجوم على وزارة العمل!
النائب حسن الدوسري شن هجوماً شرساً على وزارة العمل عندما التقيناه على خلفية سقوط مجموعة من العمال بسبب مواقع الإنشاءات، واصفاً إياها بالوزارة المتنصلة من المسؤولية.
أخبرنا النائب الدوسري أن وزارة العمل حين تم توجيه السؤال إليها حول الحوادث الأخيرة التي مات بسببها بعض العمال في أثناء عملهم، أجابت أنها ليست جهة الاختصاص بهذا الأمر، مبدياً استغرابه من هذا الرد، وقال: في واقع الأمر هذا تنصل من المسؤولية لو حدث ذلك، فإذا لم تكن السلامة المهنية من مهمات العمل ومسؤولياتها، فما هي مهماتها ومسؤولياتها إذاً؟ أو فلترشدنا إلى جهة الاختصاص المسؤولة عن سلامة العمال. ويضيف: اسمها وزارة العمل، أي هي المسؤول الأول والأخير عن سلامة العمل والعمال، وليس من المعقول اليوم وبعد الحوادث المؤسفة التي جرت وراح ضحيتها عمال أبرياء، أن تتهرب من مسؤوليتها؟.
يعتقد الدوسري بأهمية التركيز على أمور السلامة غير المتوفرة أصلاً، فيجب أن تكون هناك مراقبة للأدوات وسلامتها، فسبل السلامة واجبة.
ويرى الدوسري أن هناك جهات رسمية عدة مسؤولة عن حوادث المنشآت، وفي مقدمتها وزارة العمل، كما يتحمل أرباب العمل جزءاً من السلامة بتوفير الأدوات الحديثة للإنشاءات وتطبيق القوانين المتعلقة بالسلامة، ويتحمل العامل جزءاً آخر من المسؤولية، أما حوادث مساكن العمال فإنها مسؤولية البلديات وأرباب العمل. حين سألنا الدوسري عن وجود تقصير في التشريع الخاص بسلامة العمال أجاب: هناك اليوم قانون العمل البحريني وقانون للسلامة، هذه القوانين واضحة ومتكاملة، إذ ليس هناك من قصور في التشريع الخاص بهذه الجوانب، وإنما المشكلة في إهمال هذه القوانين وعدم تطبيقها، سواء من رب العمل أو الجهات الرسمية المسؤولة.
«جريمة بحق الإنسانية»!
قبل أن نتأكد هل بالفعل وزارة العمل هي المسؤول الأول والأخير عما يحدث للعمال في البحرين كما ذهب النائب الدوسري التقينا الرئيس السابق لجمعية المقاولين البحرينية نظام كمشكي الذي رحب كثيراً بالحديث في هذا الموضوع الذي واصفاً إياه بأنه «ذو شجون» وحرك فيه آلاماً وآمالاً لم تغادر ذهنه! كمشكي أشاد بداية بالقوانين والأنظمة التي تمتلكها وزارة العمل لحماية العامل البحريني والأجنبي ولكنه وجَّه اللوم إلى الكفيل البحريني، مشيراً إلى أن بعضهم يتلاعب بحياة العمال ومصائرهم، وعندما سألته كيف أجابني: هؤلاء العمال دخلوا جميعاً إلى البلاد بتصاريح قانونية عندما سجل الكفيل أسماءهم واستخرج لهم بطاقات سكانية في عناوين معينة والمفروض عليه أن لا يسمح لهم بتغيير مواقع سكنهم ليسكن بعضهم إلى جانب بعض في منطقة أخرى! وكما تعلم فأن عقود الإيجار للشقق والبيوت التي تؤجر على العمال تذهب إلى البلدية.
وتوقف قليلاً ليقول: وهنا يأتي الدور الرئيس للبلدية فعليها أن تكشف هذه البيوت وتقيمها ما إذا كانت تصلح لسكن العمال بناءً على عددهم وغيرها من الأمور، ونحن هنا ينقصنا القانون الذي يؤكد دور وزارة البلديات في هذا الشأن في توفير شروط محددة لتأجير العمال.
استوقفت كمشكي لأحدثه عن الدور الذي أعرفه لكل من وزارة البلديات والعمل في تفتيش سكن العمال والتأكد من توفر الاشتراطات الصحية والبيئية والأمنية فقاطعني قائلاً: لتعلم يا أخي أن تلك اللجان التفتيشية بين تلك الوزارات تذهب فقط إلى مساكن العمال النظيفة ولكننا لا نجدها تذهب إلى سكنهم في الأحياء القديمة وبين الأزقة في القرى والبيوت الآيلة للسقوط!
وأوضح كمشكي أن أغلب العمال يسكنون في تلك المناطق القديمة في شقق وأماكن لا تصلح للعيش الآدمي وفوق السطوح وفي ظروف تخلو من الضمانات الصحية واشتراطات السلامة ثم تجدهم يعملون في المطاعم وبيننا في الأماكن العامة ونحن نخاف على أنفسنا وعليهم من الأمراض المعدية والخطرة.
ووجه نداءه إلى أرباب العمل: هؤلاء بشر مثلنا ووراءهم أسر يريدون تأمين حياتهم ومستقبلهم ولا يجوز أن يعاملوا بهذه الطريقة، مطالباً بتوفير تشريعات قانونية واضحة وصارمة تحميهم من هذا الضياع الذي يقودهم إليه أناس لا يهمهم إلا النفع المادي.
وأبدى كمشكي في ختام اللقاء معه أسفه على موت ضحايا الحريق في إحدى الشقق التي تثبت صدق ما ذهب إليه واصفاً إياها بأنها «جريمة بحق الإنسانية.
نظرة المقاول
يرى المقاول سالم مبارك أن المشكلة في الأساس في ثقافة العامل نفسه، فربما، بل من المؤكد أن غالبية أرباب العمل يوفرون اليوم أحدث المعدات وأدوات السلامة كافة للعاملين، لكن ما نجده هو أن العامل لا يتمتع بثقافة السلامة، أو أنه لبساطته لا يعرف كيف يستخدم تلك الأدوات الحديثة، ومن هنا وجب تدريبهم على استخدام الأجهزة والأدوات، وكل ما يتعلق بالسلامة. ويقول مبارك: المقاولون ينقسمون إلى ثلاث درجات، فالدرجة الأولى هي الشركات والمقاولون الكبار، وهؤلاء من الممكن توفير أدوات السلامة كافة وتطوير عمالهم وتثقيفهم، والدرجة الثانية تستطيع ذلك لكن بصعوبة، أما الثالثة فإنها لن تستطيع القيام بهذا الأمر. ويضيف: يجب على وزارة العمل وهيئة تنظيم سوق العمل أن تجري اختبارات على قدرات العاملين في قطاع الإنشاءات لقياس ثقافتهم في العمل، ومن لا يتجاوز هذه المرحلة، يجب حينها زجه بدورات في مبادئ السلامة. ويرى أن الأخطاء في هذا الخصوص أخطاء مشتركة، فبعضها يعود إلى العامل وبعضها إلى أرباب العمل، والكثير منها يعود إلى الوزارات المختصة.
«العمل» ترد
أشارت أغلب أصابع الاتهام في هذا التحقيق إلى وزارة العمل، ومن باب الإنصاف أقول أنني بمجرد اتصالي برئيس قسم السلامة المهنية بالوزارة حسين الشامي بادر إلى التجاوب معنا ورحب بإعطائنا التفاصيل اللازمة كافة من باب الشفافية.
في البداية أوضح الشامي أن هناك نوعين من المساكن في مملكة البحرين يمكن أن يسكنها العمال: الأول مساكن العمال وهي التي يوفرها صاحب العمل لعماله وهي تخضع لإشراف مباشر وكامل من وزارة العمل، ونادراً ما تقع فيها الحوادث، مبيناً أن الجهاز التفتيشي لوزارة العمل بالتعاون مع النيابة العامة والدفاع المدني ووزارتي البلديات والصحة يتأكد من توفر الجوانب الصحية والأمان من حدوث الحرائق، لافتاً إلى أنه تمت مخالفة عدد من أصحاب العمل غير الملتزمين بتوفير تلك الاشتراطات أما النوع الثاني فهو مساكن العزاب، وهي المساكن التي يجتمع فيها عدد من العمالة سواء «الفري فيزا» أو غيرها بمفردهم أو معاً في البيت نفسه ويستأجرونه بأنفسهم مقابل مبلغ بسيط من كل منهم، وهذا النوع يوجد في رقابته فراغ تشريعي لأنه أولاً لا يوجد صاحب عمل محدد وفر السكن لهؤلاء العمال فلا يخضع تفتيش هذا العقار للقرار المنظم لسكن العمال، ولكننا نشن حملات مشتركة مع وزارة البلديات ونعطي رأينا الفني إلى البلديات إلا أننا مع البلدية لا يمكننا أن نفتش في بيوت المقيمين العزاب إلا بإذن من النيابة العامة!
في أي ملعب نرمي بالكرة الآن يا وزارة العمل؟! الشامي ألقى بها في ملعب المجلس التشريعي ودعا نواب الشعب للأخذ بالمقترحات المُنَظِمة لسد الفراغ التشريعي، لافتاً إلى وجود مقترحات من وزارتي العمل والبلديات تنظم عملية تأجير العقار والحصول على ترخيص من البلديات في حال رغبة المالك بتأجير عقاره سكن للعمال التي يمكنها أن تسمح له على وفق اشتراطات بعينها ليُستخدم كبيت للعمالة العازبة وبذلك نتجنب الإشكال القانوني في الدخول لتلك المساكن في حال رغبتنا في التفتيش حول توفر الاشتراطات التي تحميهم من الأخطار والحوادث. على الرغم مما قيل في هذا التحقيق والاتهامات التي تبادلتها الجهات المسؤولة فيما بينها إلا أن الأمر يحتاج إلى وقفة جادة من الجميع لحل هذه المشكلة وإيقاف هذا الخطر الذي يتهدد العمالة الأجنبية.. فهل نحن فاعلون؟
قولوا: إن شاء الله!