هل كان محمد البوعزيزي يتصور أنه عندما أقدم على الانتحار بإضرام النار في جسده النحيل، سيكون بمثابة الشرارة التي أشعلت تلك النار في هشيم الأوضاع العربية الراكدة، إن لم تكن الآسنة؟ وهل كان في وسع من استبشروا بتداعيات الأحداث التي تلت ذلك، وامتدت من تونس إلى القاهرة مروراً بطرابلس الغرب كي تصل أتربة عواصفها إلى صنعاء، أن يستقرئوا التاريخ فيرسموا الصورة الحقيقية المتوقعة، كي تأتي مطابقة لما آلت إليه الأوضاع المنطقة العربية؟ مثل هذه التساؤلات وأخرى غيرها باتت تدور في أذهان كثيرين من المفكرين العرب، بل وحتى الأجانب ممن يتابعون تطورات الأوضاع في المنطقة العربية، ويحاولون قراءتها من منظار علمي بعيد عن أية تشوهات مصدرها الإسقاطات النابعة من انحياز عاطفي إيجابي لرياح التغيير أو تشبث محافظ يصرعلى بقاء الأمور على ماهي عليه. تتكامل تلك التساؤلات المشروعة مع حيرة عربية شديدة غير قادرة على الرسو على شاطئ يعينها على الخروج بتشخيص دقيق وصحيح للمستقبل الذي سترسمه تلك الأحداث للواقع العربي القادم. 

ربما من المبكر الخروج بحكم قاطع على ما سوف تنتهي إليه تلك التطورات العربية التي نتحدث عنها، والتي لم تكن الحالة “البوعزيزية” سوى نقطة انطلاقها. لكن ذلك لا يمنع من تسليط الضوء على بعض الظواهر التي أخذت تبرز على سطح تلك الأحداث وتحط الرحال عندها. ولرسم معالمها بالدقة المطلوبة لا بد من الانطلاق من حقيقة شبه مطلقة تقول إن المنطقة العربية كانت بحاجة إلى أن يحدث فيها تغيير شامل يمس جوهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، سواء بفضل العوامل الداخلية التي تخلقت خلال النصف القرن الماضي أو استجابة لمتطلبات العلاقات التي باتت تنسجها دوله مع الخارج، والتي لم تعد الأوضاع القائمة في حال استمرارها قادرة على تلبية أي منهما.
لكن الحاجة للتغيير لا تعني أن يأتي ذلك التغيير المطلوب بما هو أفضل، أو أن يقود إلى تحولات تسير خطاها على طريق يقود نحو مستقبل أحسن. فتاريخ التطور الإنساني مملوء بالإخفاقات، وفي أحيان أخرى بالانتكاسات. ولو ألقى المواطن العربي نظرة على ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد العربية، فربما يجد نفسه في حيرة شديدة من أمره لا تعينه على الخروج باستنتاج قاطع يحكم فيه أن الأمور قد تحسنت أم أنها ازدادت سوءاً.
هنا مرة أخرى ينبغي التحذير من بعض المقولات الخاطئة التي باتت تلوكها بعض الألسن، ومفادها أن كل ما تمخضت عنه تلك الأحداث هو وصول التيار الإسلامي السياسي إلى سدة الحكم. ففي ذلك كثير من التبسيط أولا والإجحاف بحق الإسلام السياسي ثانياً. فمن يدعو للديمقراطية ويطالب بالمساواة في الحقوق السياسية عليه أن يقبل بوصول الإسلام السياسي للحكم، كي يأخذ هذا الأخير فرصته العادلة، أسوة بمن سبقوه إلى الحكم من التيارات الأخرى من أممية وقومية. فوصوله للسلطة سيضعه أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستجابة الحضارية المعاصرة لمتطلبات الظروف التي أوجدها التطور الحضاري للإنسان على امتداد القرون الأربعة عشر الماضية، وهنا يكسب الإسلام والمواطن العربي بعداً حضارياً يساهم في تطوير مؤسسات الحكم العربية، وإما أن يصر ذلك التيار على إدارة الحكم بأساليب غير ملائمة، وهنا سيحفر قبره بيده.
في كلتا الحالتين سيكون المواطن العربي، ومن خلفه الإسلامي الحضاري المتفتح هما المنتصران في معارك الصراع، محلياً كان هذا الصراع أم أممياً.
لكن ما يزيد في حيرة المواطن العربي، ومن ثم يثير العديد من التساؤلات التي ما تزال تبحث عن إجابات شافية لتك الحيرة، هي تلك الألوان القاتمة التي بات نطاقها يتسع في صورة المشهد السياسي العربي، منذ أن التهمت النار جسد البوعزيزي، الأمر الذي يزرع بذور الشك في داخل نفسية المواطن، ويحول حيرته إلى خوف من مسارات تلك الأحداث، والمآل الذي سوف تنتهي إليه.
فعلى المستوى الاجتماعي، لا يبدو في الصورة أي قوى اجتماعية جديدة صاعدة، تختلف جذورها الطبقية، ومن ثم مصالحها الاقتصادية وبرامجها السياسية، عن تلك التي كانت في سدة الحكم، بل ربما نجد في بعض الدول مثل مصر وليبيا، أن الجذور الاجتماعية للقوى الجديدة، وتلك القديمة، تكاد أن تكون متطابقة، فكلتاهما تنحدران من الطبقة المتوسطة. لا يغير من هذه الجذور الاجتماعية، بعض النتوءات الاستثنائية التي تثبت صحة القاعدة، ولا تنسفها. ومن هنا فمصدر حيرة المواطن العربي الذي ننقل همومه، هو هل ستكون هذه القوى المشابهة لمن سبقتها قادرة على أن تقود عملية التطور المنشودة، إن لم يكن التحول الاجتماعي المطلوب الذي يستدعيه التغيير الجذري الطموح الذي أشرنا إليه. الحديث هنا عن برامج متكاملة، قادرة على إحداث النقلة النوعية الإيجابية المطلوبة، لا تلك الشعارات الرنانة التي تقف عند حدود إلهاب حماس المواطنين، وجمهرة المظاهرات، وقيادة المسيرات “المليونية”.
الحيرة ذاتها تتكرر، بل وبإلحاح أشد، عندما يصل الأمر إلى التحولات السياسية المتوخاة من تلك الأحداث التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، فحتى يومنا هذا، وفي البلدان التي استقرت فيها الأمور، نسبياً وليس بشكل مطلق، ما تزال البرامج السياسية التي تبشر بها القوى الجديدة في حالة هلامية، تجعل من الصعب، على المتابع، الخروج بحكم قاطع عليها، سلبياً كان ذلك الحكم أم إيجابياً. هذا في حال كانت مقاييس الحكم موضوعية بعيدة عن التشنج العاطفي. مرة أخرى يقصد بالحديث عن البرامج السياسية هي تلك التي بوسعها أن تنقل البلاد من الحالة السياسية المتردية، التي خرج المطالبون من أجل تغييرها لكونها لم تعد قادرة على تلبية احتياجات المرحلة التي أتوا هم من أجل إنجازها، وفي الاتجاه الإيجابي الصحيح لها.
تزداد تلك الحيرة سوءاً، وخشية من المصيرالقادم، حينما تمس الاقتصاد، فهو الإكسير الذي سيمد أي نظام قادم بعناصر الحياة التي تساعده ليس على الأداء السليم فحسب، بل القدرة على إنجاز التطور المنشود أيضاً. ولا يكتفي المواطن، هنا كي يخرج من حيرته، بقراءة برنامج اقتصادي هنا، أو خطة اقتصادية هناك، فهو يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك، كي ينتشل نفسه من كوابيس تلك الحيرة. يتطلب الأمر هنا أن تكون تلك البرامج أو الخطط، بعيدة عن التجيير السياسي، وقادرة على الخروج بالبلاد من حالاتها الاقتصادية المتردية، والتي كانت السبب المباشر في إشعال نيران تلك الأحداث، ووضعها على سكة القطارالقادر على إحداث النقلة النوعية المطلوبة لتهيئة اقتصاد تلك البلاد للقضاء على الأسباب التي دمرت اقتصادها أولاً، وإحلال الاقتصاد الملائم والمنتج ثانياً.
حــيرة عربيــة شـديــدة تنتظر ما سوف تأتي به الأيام القادمة!