كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
العلاقة بين الكآبة والانتحار لها أنماط وطقوس وتاريخ يحمل منحنيات و خبايا لاغتراب النفس البشرية وانهزامها أمام نرجسيتها قد تكون تارة، والأخرى هو هروبها من عبثيتها. وجدت نفسي أغوص في هذا الموضوع وهو الانتحار إلى أعماق الحالات. فانتحار فرد قد لايكون حالة أولى أو أخيرة في مسلسل الهروب من الإحباطات وما أكثرها في عصرنا هذا.
فشل وقتي
نأخذ على سبيل المثال قصة المواطنة المصرية التي أخفقت في الامتحان لتجد نفسها تتخلص من هذا الفشل الوقتي بالتوجه إلى الانتحار. يقول الخبر الذي نشر مؤخراً في الصحافة “أقدمت فتاة مصرية على الانتحار بتناولها مادة سامة بقرية المعابدة الشرقية التابعة لمركز أبنوب بأسيوط، بسبب رسوبها في الامتحانات. وذكرت وسائل إعلام مصرية أن الشرطة في أسيوط تلقت بلاغاً بوصول جثة هبة عبد الحكيم فرغلى “16سنة – طالبة”، ومقيمة بقرية المعابدة الشرقية، إلى مستشفى أبنوب المركزي، إثر إصابتها بهبوط حاد بالدورة الدموية، بسبب تناولها مادة سامة، وتوفيت على إثرها، فتم التحفظ على الجثة بمشرحة المستشفى تحت تصرف النيابة. وأشارت والدة الفتاة إلى أنها قررت تناول مادة سامة إثر علمها برسوبها في الامتحانات، ولم تتهم أحداً بالتسبب في ذلك. هذه قضية قد لا تكون مسألة الرسوب سببها بقدر ما فيها من ترسبات عايشتها تلك الفتاة، وقد يكون الفشل في الامتحان هو الدرب الذي أرادت هذه الفتاة أن تتخذ منه ذريعة للانتحار”.
حتى الأطفال
أما القضية الأخرى التي هزت مشاعري فهي تأثر الأطفال بالمسلسلات الكرتونية، حيث أفقدتنا مجموعة من الصغار ببراءتهم من خلال تأثرهم بالشخصيات الكرتونية. وكنا قد تابعنا تأثر الكثير منهم بشخصيات خيالية كسوبرمان وبات مان وغيرها من الشخصيات الخارقة التي تسببت في موت الكثير منهم عندما حاولوا تقلديهم وألقوا بأنفسهم من على سطوح بيوتهم. إحدى الحوادث تنقلنا من القاهرة إلى الجزائر، من فتاة إلى مجموعة من الأطفال. تقول تفاصيل الحادثة “ انتحار 15 طفلاً جزائرياً بسبب “المحقق كانون”. نشرت صحيفة البيان الجزائرية خبراً يفيد بانتحار 15 طفلاً بالجزائر في توقيت متزامن بعد عرض المسلسل الكرتوني “المحقق كونان” على إحدى القنوات الكرتونية المتخصصة ببرامج الأطفال، حيث إنتحر 3 أطفال من منطقة القبائل الكبرى في وسط الجزائر، لا تتجاوز أعمارهم الـ12سنة، واهتزت قرية آخرين التابعة لبلدة تيزي راشد، على خبر انتحار التلميذ زيدان وهو من مواليد 1999 في الصف التاسع وكان من المفترض أن يجتاز شهادة التعليم المتوسط. لكن شاء القدر أن يكون من بين الأطفال المتلهفين لتنفيذ ما يشاهده في المسلسل الكرتوني “المحقق كونان”، ويقول زميله في المدرسة محمد إن زيدان كان يردد دائماً أنه سيفعل مثلما فعل كونان، وهو مسلسل يبرز كيف يمكن لشخص أن ينتحر أو يقتل نفسه بطريقة تمكنه بعدها من العودة إلى الحياة من جديد. الأمر نفسه حدث في قرية أبهال التابعة للولاية ذاتها بخبر مقتل هنى من مواليد 2000 الذي انتحر على طريقة كونان، وبفارق نصف ساعة عن توقيت زيدان. كما إنتحر تلميذ يدعى محمد في سنة أولى متوسط بحزام ملابس الكاراتيه الذي يتدرب به، وذلك عقب مشاهدته إحدى حلقات المسلسل ذاته وفق رواية والده، وتؤكد الوالدة أن ابنها كان يتابع السلسلة الكرتونية التي تعرضها القناة بشغف بعد عودته من المدرسة، وتوضح أنه في إحدى الحلقات عرض مشهد مثير ومروع، انتحرت فيه إحدى الشخصيات شنقاً لأنها سئمت الحياة لتعود بعدها إلى الحياة من جديد. وتقول الوالدة بحسرة: “يبدو أنه تأثر بالحلقة وحاول تقليدها ولكنه فارق الحياة دون رجعة”. توالت بعد ذلك الأخبار لاحقاً عن حالات انتحار أولاد في عمر الزهور، متأثرين بالمحقق كونان، فأقدم مراهق في الرابعة عشر من عمره على الانتحار بحرق نفسه في ولاية باتنة شرق العاصمة الجزائرية وآخر شنق نفسه في مدينة تيارت غرب العاصمة. وسجلت حالة في ولاية بسكرة وأخرى في سكيكدة وحالتان في ولاية برج بوعريرج وثلاث حالات في ولاية خنشلة وحالتان في ولاية بجاية وآخرها في ولاية وهران.
القصة الأغرب
القصة الأكثر غرابه في التاريخ قد يتصورها البعض قصة اعتدنا قراءتها في روايات الكاتبة آجاثا كريستي والتي قد لا يصدق البعض أحداثها لكثرة ما فيها من صدف غريبة، والتي قد تصلح لإثارة أكثر العقول إيماناً بأنها رأت وسمعت ما يكفي وأن ليس هناك ما يثير، غير قصص الخيال العلمي في السينما والتلفزيون. كانت أحداثها الغريبة موضوع خطبة ألقاها رئيس “جمعية علماء التشريح في جرائم القتل” بأمريكا، وأثارت دهشة مستمعيه في ذلك الحفل، ويفترض أنهم كانوا قد شاهدوا الكثير، ليس بسبب روايتها العجيبة فقط، بل ولتعقيداتها القانونية، فهي قصة جريمة قتل غير مسبوقة، ولا يمكن أن تتكرر بسهولة مرة أخرى. الأحداث تبدأ في 23 مارس 1994 حيث بين تقرير تشريح جثة رونالد أوبوس أنه توفي من طلق ناري في الرأس، بعد أن قفز من سطح بناية مكونة من عشرة طوابق في محاولة للانتحار تاركاً خلفه رسالة يقول فيها إنه قد يئس من حياته، وأثناء سقوطه أصابته رصاصة انطلقت من إحدى نوافذ البناية التي قفز منها، ولم يعلم المنتحر أو من أطلق النار عليه وجود شبكة أمان بمستوى الطابق الثامن، وضعها عمال الصيانة، وكان من الممكن أن تفشل خطته في الانتحار.
من الفحص تبين أن الطلقة التي أصابته انطلقت من الطابق التاسع، وبالكشف على الشقة اتضح أن من يقيم فيها هما زوجان من كبار السن، وقد اشتهرا بين الجيران بكثرة الشجار، وخلال وقوع الحادث كان الزوج يصرخ مهدداً زوجته بإطلاق الرصاص عليها إن لم تصمت، وكان في حال هيجان شديد بحيث ضغط على الزناد دون وعي فانطلقت الرصاصة من المسدس، ولكنها لم تصب الزوجة بل خرجت من النافذة لحظة مرور جسد رونالد أمامها فأصابته في رأسه وأنهت حياته، والقانون ينص على أن كل مدان بجريمة قتل إن هو قتل أياً من الناس بدلاً من الآخر الذي كان قد تقصده، وبالتالي فالرجل العجوز هو القاتل، حيث إن شبكة الأمان كان من الممكن أن تنقذ حياة رونالد من محاولته الانتحار، وعندما وُوجه الرجل بتهمة القتل غير العمد أصر هو وزوجته على أنهما دائماً ما يتشاجران، وقال الزوج إنه اعتاد على تهديد زوجته بالقتل وإنه كان يعتقد دائماً أن المسدس خال من أي رصاصة قد تودي بحياة الزوجة، وكان في ذلك اليوم غاضباً بدرجة كبيرة من زوجته فضغط على الزناد وحدث ما حدث.
التحقيقات أثبتت أن أحد أقرباء الزوجين سبق أن شاهد ابن الجاني، أو القاتل وهو يقوم قبل أسابيع قليلة بحشو المسدس بالرصاص، وتبين أيضاً أن زوجة الجاني سبق أن قامت بقطع المساعدة المالية عن ابنهما، وأن هذا الأخير قام بالتآمر على والديه عن طريق حشو المسدس بالرصاص، وهو يعلم بما يحدث بين والديه من شجار شبه يومي وتهديد أبيه لوالدته بالقتل عن طريق ذلك المسدس الفارغ، فإن نفذ تهديده مرة واحدة فسيتخلص من أمه وأبيه بضربة، أو رصاصة واحدة. وحيث إن نية الابن كانت القتل فيصبح بالتالي متورطاً في الجريمة حتى لو لم يكن هو الذي ضغط على الزناد، أو استخدم أداة القتل، وهنا تحولت تهمة القتل من الأب إلى الابن لقتله رونالد أوبوس ولكن استمرار البحث أظهر مفاجأة أخرى، فالابن المتهم لم يكن غير المنتحر، أو القتيل رونالد اوبوس، فهو الذي وضع الرصاصة في المسدس ليقوم والده بقتل والدته، وعندما تأخر والده في تنفيذ وعيده، وبسبب تدهور أوضاعه المادية قرر الانتحار من سطح البناية لتصادفه الرصاصة التي أطلقها والده من المسدس الذي سبق أن لقمه بالرصاصة القاتلة، وبالتالي كان هو القاتل وهو القتيل في الوقت نفسه، رغم أنه لم يكن من أطلق الرصاص على نفسه، واعتبرت القضية انتحاراً، وعلى هذا الأساس أغلق ملفها.
العشرة الأبرز
إن العقول وإن كانت مبدعة، فإن هناك من العباقرة من ركز على فكرة الانتحار، بل وأقدم عليها، ونعرض هنا للعشرة المنتحرين الأشهر في التاريخ، أحدهم آلان تورينج “1912 – 1954 “. وصف آلان تورينج بأنه أعظم عالم بريطاني في القرن العشرين، حيث برع بشكل ملفت للنظر في العلوم والرياضيات والمنطق وتخصص في كتابة الشفرات وكسرها. ويمكن وصف “تورينج” أيضاً بأنه المؤسس لعلوم الكمبيوتر الحديثة. فقدم جهازاً أطلق عليه اسم آلة تورينج وفيه وضع النواة الأولى لمفهوم الحوسبة واستخدام الخوارزميات، كما ساهم بقدر كبير في العمل على تطوير مفهوم الذكاء الاصطناعي ورسم صورة للتطبيقات التي يمكن استخدامها فيه. التحق بالعمل في المعمل الفيزيائي البريطاني العام 1945، وهناك شارك في وضع التصميمات الأولى لجهاز كمبيوتر لديه القدرة على التخزين، ثم التحق للعمل في جامعة مانشستر وهناك عمل على المشروع Manchester Mark I الذي ظهر لاحقاً كأحد أوائل أجهزة الكمبيوتر الحقيقية في تاريخ البشرية. تجلت قدرات “تورينج” في التعامل مع الشفرات أثناء الحرب العالمية الثانية فعمل في المركز البريطاني لكسر الشفرات وترأس بعد ذلك الوحدة المسؤولة عن التعامل مع شفرات القوات البحرية الألمانية، وكان له دور رئيسي في فك الشفرة الألمانية المعقدة Enigma. لكن هذه الخدمات لم تشفع له في بريطانيا عندما اعترف بشذوذه الجنسي، بعد أن وُجِه له الاتهام بأنه أقام علاقة جنسية مع رجل آخر، حيث تم تحويله للمحاكمة “إذ أن الشذوذ الجنسي كان تهمة يعاقب عليها القانون البريطاني”، ورغم أن طريقة العقاب كان من اختياره، فإنه لم يتحمل الذل والألم الذي سببه له، فقرر وضع حدٍّ لحياته في 8 يونيو 1954 بتناول تفاحة مُسممة.
قضية والاس كاروثرز
أيضا هناك والاس كاروثرز” 1896 – 1937 “. ويعود الفضل إلى الكيمائي الأمريكي “والاس هيوم كاروثرز” في اختراع مادة النايلون، وذلك حينما كان يقود مجموعة من الباحثين في معامل اختبارات شركة DuPont، وبخلاف النيلون استطاع “كاروثرز” أن يضع الأسس التي قادت لاكتشاف المطاط الصناعي “النيوبرين”، وبعد أن أنهى دراساته الأكاديمية وحصل على درجة الدكتوراه قام بالتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية، ثم التحق بشركة DuPont للعمل ضمن الفريق الرئيسي للأبحاث. وبعد أن استطاع تحقيق الكثير من النجاحات، اصطدم “كاروثرز” بالاكتئاب نتيجة لتوقف قدرته على الابتكار والإبداع وجاء الموت المفاجئ لأخته ليدفعه إلى اتخاذ قرار إنهاء حياته بتجرع السم.
أتممت مهمتي
جورج إيستمان” كوداك وُلد في مدينة Water ville الأمريكية العام 1854، ودفعه اهتمامه بالتصوير إلى إنشاء شركة Eastman Kodak وابتكر فيلم التصوير اللفاف، الذي ساهم في انتشار التصوير الفوتوغرافي وتطويره، وساهم أيضاً في وضع بذور ابتكار فيلم التصوير الخاص بالصورة المتحركة العام 1888. وشعر “إيستمان” بضرورة تطوير التصوير الفوتوغرافي وبدأ فعلاً تجاربه في 1874، وبعد 10 سنوات قام بتسجيل براءة اختراع لوسيط للتصوير يحل محل الألواح الزجاجية القابلة للكسر، بحيث يتم استبدالها بلفائف من الورق مغطاة بمادة حساسة وهي التي أُطلق عليها اسم الشريط اللفاف، وقد ساهم هذا الشريط في تسريع وتيرة تقديم إمكانية تصوير عدة صور في الوقت نفسه، وهو ما دفع “إيستمان” العام 1888 إلى تسجيل Kodak كعلامة تجارية. انتحر “إيستمان” العام 1932 بدون أي مقدمات، لكنه كتب ملحوظة صغيرة في ورقة وجدت بجوار جثته كتب فيها “لقد أتممت مهمتي، إذن لماذا الانتظار”.
الجرّاح الأشهر
نيكولا ليبلان “1742 – 1806” اشتهر الكيميائي والجراح الفرنسي البارع “ نيكولا ليبلان” بأنه أول إنسان قام بتصنيع الصودا مباشرة من الملح، وقد أظهر اهتماماً كبيراًً بالعلوم والطب في سن صغير حيث التحق بمدرسة باريس للجراحين في سن السابعة عشرة وفي سن الثامنة والثلاثين أصبح الطبيب الخاص لدوق مقاطعة Orleans. بدأت شهرته مع مسابقة أطلقتها الأكاديمية الفرنسية للعلوم العام 1775 خُصصت لها منحة مالية كبرى، تُمنح لمن يتمكن من إنتاج الصودا “التي كانت سلعة مطلوبة بقوة في ذلك الوقت”، باستخدام الملح الرخيص ونجح “ليبلان” في إنتاج الصودا من خلال الملح، عبر عملية كيميائية متطورة من مرحلتين، وهو ما دفعه للتفكير في إنشاء مصنع خاص به يقوم بإنتاج الصودا، وبالفعل افتتح بنهاية العام 1791 مصنعاً خاصاً لإنتاج 320 طناً من الصودا سنوياً، لكنَّ حكومة الثورة الفرنسية قامت بمصادرة المصنع منه بعد عامين ورفضت إعطاءه المنحة المادية التي نالها نتيجة فوزه بالمسابقة، والتي كان يعتمد عليها بشكل كبير في إدارة وتشغيل المصنع، والعام 1802 قرر نابليون أن يرد المصنع إليه دون المنحة المالية، وفي ذلك الوقت كان “ليبلان” قد أفلس ولم يعد يملك المال لإدارة المصنع وهو ما دفعه للانتحار العام 1806.
الإحباط عدو غاشم
إيدوين أرمسترونج “1890 – 1954”، وُلد إيدوين أرمسترونج في 18 ديسمبر 1890، وبزغ اسم المهندس الكهربائي الأمريكي بعد أن اخترع تقنية التضمين الترددي للبث الإذاعي، والمعروف باسم راديو FM، وهو الابتكار الذي عمل عليه طويلاً بداية من المرحلة الجامعية وحتى تسجيل براءة اختراع له العام 1914. وطوال السنوات اللاحقة دخل أرمسترونج في عدة نزاعات حول براءة الاختراع، كما إن شركة راديو أمريكا حاربته وعملت بكل جهدها لمنع ظهور ابتكاره إلى النور خوفاً من اختفاء تقنية راديو AM. دفعت تلك النزاعات والحروب إلى إدخال أرمسترونج حالة من الإحباط الشديد نظراً لشعوره أن اختراعه لن يرى النور، وهو ما دفعه إلى القفز من الدور الثالث عشر وإنهاء حياته في سن الثالثة والستين.
احتجاجاً على النازية
هانز بيرجر “1873 – 1941 “، ولد هانز بيرجر في مدينة Ne uses الألمانية العام 1873، وعرف بيرجر بأنه أول إنسان استطاع عمل رسم للنشاط الكهربائي في دماغ الإنسان، كما إنه أول من اكتشف موجات Alpha الدماغية المتناغمة، درس “بيرجر” الطب في جامعة Jena وتحديداً الجهاز العصبي والطب النفسي كما درس علم النفس أيضاً، وركز في عمله بعد ذلك على دراسة الجهاز العصبي، واستطاع أن يكون أول إنسان يسجل النشاط الكهربائي للمخ البشري العام 1924، حيث كان قد سبقه العالم البريطاني “ريتشارد كاتون” في تسجيل النشاط الكهربائي ولكن لدماغ الحيوان، ذلك الإنجاز العلمي قاده لاكتشاف موجات ألفا الدماغية، وهو ما قاد أيضاً ولأول مرة إلى إمكانية دراسة أثر مرض الصرع على المخ البشري. دخل “بيرجر” حالة من اليأس والإحباط بسبب النازية وانتشارها وكذلك للتدمير الذي طال العالم من جراء الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفعه لشنق نفسه في الأول من يونيو العام 1941.
الموت مقابل الإشعاعات
فاليري ليجاسوف “1936 – 1988”، يعتبر فاليري أليكسفيتش ليجاسوف أحد أبرز العلماء الروس في مجال الكيمياء غير العضوية، وأحد الأعضاء المهمين في أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي، واشتُهِر بصورة أكبر عندما عُيِّن كرئيس للجنة التفتيش التي عُهد إليها بتقصي أسباب كارثة تشيرنوبل النووية وتقدير تبعاتها. في أغسطس من العام 1986 قام بتقديم تقرير الوفد الروسي الموفد إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد اندهش العالم وأوروبا وأمريكا تحديداً من أمانة هذا العالم في البحث والتحليل الدقيقين، وأيضاً مصداقيته في مناقشة عواقب الكارثة النووية، لكن ذلك فتح عليه أبواب جهنم في الاتحاد السوفيتي، خصوصاً أن “ليجاسوف” ظل ثابتاً على موقفه ورفض تغيير أقواله وآرائه التي أتى بها في التقرير، وبداية سوء المعاملة كانت مع إقصاء اسمه لعامين متتاليين 1986 و1987، من قائمة المرشحين لنيل وسام البطولة في العمل الاشتراكي “أحد أبرز أوسمة التكريم في الاتحاد السوفيتي”، وفي المرة الثانية تم حذف اسمه بواسطة الرئيس الروسي “جورباتشوف” شخصياً. وبما أن المصائب تأتي مجتمعة فإن الاكتئاب الذي سيطر عليه لعدم التقدير صاحبه تدهور كبير في صحته بعد تعرضه لجرعة عالية من الإشعاع أثناء التحقيقات في كارثة تشيرنوبل النووية، وهو ما دفعه للانتحار والتخلص من حياته في 27 أبريل 1988، ولم يعِش ليرى تكريمه في حياته، حيث جاء التكريم بعد 8 سنوات تقريباً على يد الرئيس الروسي “بوريس يلتسن” الذي منحه لقب بطل روسيا الاتحادية تقديراً لشجاعته وبطولته.
مرض نووي
لودفيج بولتزمان “1844 – 1906”، يعتبر لودفيج إدوارد بولتزمان أحد أبرز الفيزيائيين النمساويين نظراً لإسهاماته الواضحة في فرعي الميكانيكا والديناميكا الحرارية، كما إنه كان من أبرز المدافعين عن النظرية النووية عندما كانت محل جدل علمي كبير. ولد بولتزمان في 20 فبراير 1844، وبرز علمياً في سن مبكرة للغاية، حيث التحق بجامعة فيينا ونال درجة الدكتوراه في الثانية والعشرين، وأصبح بروفيسوراً في الفيزياء لدى جامعة جراتز في الخامسة والعشرين من عمره، وفي العام 1893 حقق حلمه وأصبح بروفيسوراً في الفيزياء النظرية لدى جامعة فيينا، ليخلف أستاذه “جوزيف ستيفان”.
ورغم نجاحه العلمي فإنه أصيب بمرض نفسي يسمى “الاضطراب ثنائي القطب”، وهو اضطراب نفسي يمر فيه المريض بفترات متناوبة من الاكتئاب والابتهاج العالي، وقد دفعه هذا المرض إلى التخلص من حياته عندما كان في إحدى العطلات مع أسرته، وتم دفنه في فيينا، ولم يُكتب اسمه على قبره، بل تم استخدام المعادلة S=k log W، وهي المعادلة الشهيرة التي تعبر عن حقيقة علمية راسخة في مجال الميكانيكا والديناميكا الحرارية الذي تخصص فيه وعشقه تماماً.
انهيار عقلي
فكتور ماير “1848 – 1897”، يعتبر أحد أبرز العلماء الألمان على مر التاريخ، وقد برع في الكيمياء العضوية وغير العضوية، وقد ولد في مدينة برلين واشتُهِر بابتكاره لجهاز متخصص في قياس كثافة الأبخرة، وعُرِف هذا الجهاز باسمه، كما إنه صاحب اكتشاف المركب العضوي “الثيوفين”، وتأتي براعة ماير وحبه لعمله ما جعلاه مدمناً بشكل أثَّر سلبياً على نمط حياته بل ودمر جهازه العصبي كُلياً، وبعد سلسلة من الانهيارات العقلية، قرر”ماير” أن يضع نهاية لحياته وهو في التاسعة والأربعين من عمره بأخذ جرعة قوية من السيانيد.
آخر الحالات العلمية
ديفيد كيلي “1944 – 2003”، يعتبر ديفيد كريستوفر كيلي آخر حالات الانتحار البارزة بين العلماء، وهو خبير في الحرب البيولوجية لدى وزارة الدفاع البريطانية، ومفتش سابق لدى الأمم المتحدة في العراق، وقد تسبب حديثه مع أحد الصحافيين وتشكيكه في تزوير وزارة الدفاع لتقارير أسلحة الدمار الشامل الخاصة بالعراق في الكثير من المشاكل له، فبعد أن اعترف لوزارة الدفاع البريطانية أنه مصدر معلومات الصحافي، تمت معاملته بصورة سيئة للغاية، وتمت إحالته للتحقيق في لجنة برلمانية، وهناك خضع لاستجواب عدائي على مدار 5 أيام، كما تعرض للاستجواب أمام الشؤون الخارجية، وتحقيق آخر أمام لجنة الاستخبارات والأمن، وكان هو فعلاً مَن فتح ملف الأدِلّة المزيفة التي تم إعدادها لإدانة العراق، وأكد المحيطون بديفيد كيلي أن تعرضه لضغوط قوية من جميع الجهات الرسمية هو ما دمر حياته بالكامل، حيث إنه لم يعتد مثل تلك الأمور، كما إن وضعه في بؤرة الأحداث والاتهامات الحكومية أثر بالسلب كثيراً على حالته النفسية، وهو الشخص الذي اشتهر بالهدوء والخجل الشديد، وهو ما بدا واضحاً في جلسات التحقيق.
وقد عُثر على جثة “كيلي” في 18 يوليو 2003، بعد أن غادر منزله بصورة طبيعية مساء يوم 17 يوليو ليذهب في جولة مشي يومية اعتاد عليها بالقرب من منزله في مقاطعة أكسفوردشاير، وأكَّد تقرير رسمي للحكومة البريطانية أنه أنهى حياته بتناول 29 قرصاً مسكناً للألم، كما قطع شريان يده بسكين وهو التقرير الذي شكك فيه العديد من أصدقاء “كيلي” وبعض البرلمانيين البريطانيين الذين أشاروا إلى أن “كيلي” تعرض للاغتيال على يد الحكومة البريطانية ولم ينتحر.