كتب - عبدالله الحسيني وعلي الريس:
قرر المتخصصون في سيكولوجية الاتصال أن أهم وسيلة اتصال وأخطرها وأكثرها تأثيراً هي خطبة الجمعة، وذلك لاكتمال عناصر عملية الاتصال فيها، والمتمثلة في: المُرسل: وهو “الخطيب”، الرسالة: وهي “مضمون الخطبة”، الوسيلة: وهي “الخطبة”، المُستقبل: وهم “المصلون”، رجع الصدى أو ردة الفعل: والأصل فيها أنها تكون بعد صلاة الجمعة، وسيأتي البيان على ذكرها. ولعل من أهم ما يميز خطبة الجمعة عن غيرها من أنواع الاتصال ما يلي:
أولاً: الجو الروحاني الذي تتم فيه الخطبة، فحسبك باجتماع تشارك الحضور فيه الملائكة، ومثل هذا الجو الخاشع الذي بيت الله مكانه، وأفضل الأيام زمانه، وأكرم الحضور حضوره، ولا يتأتى في وسيلة اتصال أخرى، فيطبع من الأثر في نفوس الحاضرين ما لا يطبعه غيره.
ثانياً: الاتصال المباشر بين الخطيب والمخاطَبين، الأمر الذي يُفتقد في كثير من الوسائل الأخرى، ولا ريب أن هذا الاتصال المباشر أعظم تأثيراً في النفوس، لقراءة الإنسان من قريب الانفعالات العاطفية والوجدانية للخطيب، فيكون أكثر تأثراً بها وأسرع استجابة لها.
ثالثاً: وجوب الحضور المسلمين إليها، على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم التعليمية يحضرون هذه الخطبة، ويشهدون الصلاة، فيحضرها المثقف والجاهل، والكبير والصغير.
رابعاً: استمرارية التواصل بين الإمام والمصلين، فحيث أن الخطبة أسبوعية، يتواصل الإمام فيها مع المصلين على مدار العام الواحد في 52 خطبة، فإذا ما اعتنى بها الخطيب، ورتّب موضوعاتها، فإنه يقدم للمستمع مادة متكاملة.
خامساً: وجوب الإنصات، وهو محور تقريرنا، حيث يرى مراقبون أن بعض الخطباء يُخِلّون بهذا الحكم الشرعي عبر مخاطبة العواطف وتعبئتها، وجعل المصلين يرددون عبارات وهتافات تعد بمثابة إشارات تقيس ردة فعل المصلين، ومدى وصول الفكرة إليهم، وهو من ناحية اتصالية يعزز من نجاح وصول موضوع الخطبة إلى أذهان المتلقين، ونجد هذا الأسلوب متبعاً في عدد من الجوامع بالمملكة، منها جامع الدراز!
إلا أن في ذلك ضرباً لأحاديث ثابتة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة أهل البيت عليهم السلام عرض الحائط ! ومخالفةً واضحةً لحكم شرعي! واستهانةً صريحةً بمذهب جمهور فقهاء المسلمين!
فقد شرع الله تعالى الإنصات لخطبة الجمعة وتدبر ما يذكر فيها، ونهى عن الكلام والعبث أثناءها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب، فقد لغوت) رواه البخاري (934) ومسلم (851).
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا) رواه مسلم (857).
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: (إذا خطب الإمام يوم الجمعة، فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ الإمام من خطبته، وإذا فرغ الإمام من الخطبتين تكلم ما بينه وبين أن تقام الصلاة، فإن سمع القراءة أو لم يسمع أجزأه) رواه الكليني في الكافي (3/421)، وصححه المجلسي في مرآة العقول (15/354).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (لا كلام والإمام يخطب، ولا التفات إلا كما يجعل في الصلاة، وإنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين، فهي صلاة حتى ينزل الإمام) من لا يحضره الفقيه (1/416-417) للصدوق.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، فمن فعل ذلك فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له) من لا يحضره الفقيه (4/10) للصدوق.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت لا جمعة له) بحار الأنوار (86/212) للمجلسي.
حكم الإنصات للخطيب
والكلام أثناء الخطبة:
اختلف أهل العلم في مسألة الإنصات للخطيب والكلام أثناء الخطبة على قولين اثنين:
- الأول: وجوب الإنصات والاستماع للخطيب وحرمة الكلام أثناء خطبة الجمعة، وهو مذهب جمهور فقهاء أهل السنة والجماعة من الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعي في القديم، كما في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/116-117).
وهو كذلك مذهب جمهور فقهاء الإمامية، كما نصَّ على ذلك الشهيد الأول في ذكرى الشيعة (4/140)، والكركي في جامع المقاصد (2/401)، ومحمد العاملي في مدارك الأحكام (4/63)، والسبزواري في كفاية الأحكام (1/103) وذخيرة المعاد (2/315)، والمجلسي في بحار الأنوار (86/152-153) ومرآة العقول (15/354-355)، وعلي الطباطبائي في رياض المسائل (4/65)، والجواهري جواهر الكلام (11/290)، وغيرهم. وفي المهذب البارع (1/408-410) لابن فهد الحلي بأن هذا القول هو المعتمد والمذهب. وفي الذكرى (4/140) للشهيد الأول، والحدائق الناضرة (10/96) للبحراني، ومستند الشيعة (6/84) للنراقي، وجواهر الكلام (11/290) للجواهري وغيرها بأنه القول المشهور.
وقد قال به الطوسي في النهاية (ص 105)، وكذلك في الخلاف (1/615-616) مدعياً فيه إجماع الفرقة عليها، والمفيد، وابن إدريس الحلي، والمرتضى، والبزنطي، وابن حمزة، وأبو الصلاح، وأبو منصور الحلي كما في مختلف الشيعة (2/214-215)، وغيرهم كثير.
قال مرشد الثورة الإيرانية الخميني في تحرير الوسيلة (1/235): (الأحوط؛ بل الأوجه وجوب الإصغاء إلى الخطبة، بل الأحوط الإنصات وترك الكلام بينها، وإن كان الأقوى كراهته، نعم، لو كان التكلم موجباً لترك الاستماع وفوات فائدة الخطبة لزم تركه) ا.هـ،
وقال المرجعان محسن الطباطبائي الحكيم والخوئي في منهاج الصالحين (1/187): (لا يجوز التكلم أثناء اشتغال الإمام بالخطبة، والأحوط الإصغاء إليها لمن يفهم معناها) ا.هـ
وفي تصريح خاص للعلامة السيد علي الأمين قال: (المعروف أنه يعتبر توجه المصلين أثناء الخطبتين إلى الخطيب والإصغاء إليه وعدم التكلم، لأن الخطبة كالصلاة كما ورد في الخبر، والله أعلم) ا.هـ
- الثاني: استحباب الإنصات والاستماع للخطيب، وكراهة الكلام أثناء خطبة الجمعة، وهو مذهب الشافعي في الجديد، كما في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/116-117). وهو اختيار بعض الإمامية كالطوسي في المبسوط (1/147-148)، وأبي القاسم الحلي في المعتبر (2/293)، وغيرهما.
والخلاصة التي نصل إليها أن الأقوال والأفعال التي تتنافى مع الإنصات لخطبة الجمعة تُعتبر عند جمهور فقهاء المسلمين محرَّمة يترتب عليها الإثم وفوات الأجر، وتُعدّ عند البعض مكروهة يترتب عليها النصح والتوجيه.