كتب - طارق مصباح:
أكد عدد من الشيوخ أن الترفيه نشاط إنساني مبني على حاجات مترابطة مع الأنشطة التكليفية والحياتية، فالقلوب تمل كما تمل الأبدان فبعد تعب وجهد وعناء تميل النفوس إلى التجديد والتنويع، وترنو إلى الترويح واللهو المباح دفعاً للكآبة ورفعاً للسآمة ليعود الطالب بعدها إلى مقاعد الدراسة بهمة وقادة، ويرجع الموظف إلى عمله بعزيمة وثابة ذلك أن القلوب إذا سئمت عميت.
ودعوا إلى تنقية الترفيه من المفاسد والأضرار لا أن يُمنع في الأصل، ويُجعل معياراً للتمسك بالدين من عدمه، كما دعوا إلى تأطيره وفق ضوابط الإسلام الوسطية، ذلك لأن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، وقد تمثلث هذه الوسطية في الجمع بين الجد والترفيه في حياة خيار هذه الأمة.
إن الإجازة.. تجديد للنشاط وإذكاء للحركة وصفاء للأذهان وترويض للأجسام وتعليل لها حتى لا تصاب بالخمول والركود فيصبح جسماً هامداً وعقلاً غائباً.
ضوابط الترفيه في الإسلام حددها الدكتور نور الدين مختار الخادمي في نقاط أربعة وهي عدم إخلال الترويح بمصالح الدنيا والآخرة، فلا ينبغي أن يؤدي هذا الترويح إلى تضييع واجب ديني كإقامة صلاة وأمر بمعروف وإنفاق واجب وما في حكمه، كما لا ينبغي أن يؤدي إلى تضييع واجب حياتي ودنيوي كالعمل والإنتاج والقيام بأمر الأهل والولد.
إضافة إلى عدم إيلولة الترويح إلى إحدى مفاسد الدنيا والآخرة، كالوقوع في الضرر والهلاك بموجب الإفراط فيه، وكالوقوع في المحرم ومقدماته بموجب مزاولة الترويح الممنوع والمحظور.
وعدم الاعتداء على الآخر سواء في بدنه أو عقله أو نفسه أو ماله، والله تعالى يقول: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة: 190]. والاعتداء يحصل بالتعسف في مزاولة الترويح أو في تجاوز حدوده وقيوده والمبالغة فيه، وبغير ذلك مما يؤدي إلى الإضرار بالآخر والاعتداء عليه أو التقصير ف يحقه والتهاون فيه. قال صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.
وأن لا يؤدي الترويح إلى تقرير خصلة التسيب والانفلات والميوعة في نفس الإنسان أو في حياة المجتمع أو في بنيان الأمة كلها، فالترفيه نوع من النشاط الإنساني المبني على ضروراته وحاجاته وأهدافه، والمترابط مع غيره من الأنشطة التكليفية والعلمية والإنمائية والحياتية بصورة عامة.
موقف الإسلام من الترفيه الحديث
استجدت أمور في المجتمعات لم تكن في سالف العصر المثالي، فما موقف الإسلام منها، يحدثنا د.علي بن مسفر القحطاني عنه بقوله “إنه عند النظر في الموقف الشرعي من مستجدات الترفيه ألحظ هروباً وانزواء من نخبنا الشرعية عن مواجهة واقع السعي اللاهث نحو وسائل اللهو والترفيه المعاصر خصوصاً من فئة الشباب والأطفال، ويعتقد بعض دعاتنا وعلمائنا أن الحلول المثالية التي لا تصلح إلا لفئة محدودة جداً من المجتمع كالانشغال بالحفظ والقراءة وحضور الدورات العلمية أنها الحل المسكن والشامل لكل أولئك المبهورين بالجديد المغري والفاتن من اللعب والترفيه، وهذا يشكّل إحراجاً كبيراً لكل دعاوى واقعية الدين وصلاحيته لمتغيرات الزمان والمكان”، وأضاف “وأظن أن المحك الحقيقي للفقه السديد هو إيجاد البديل المباح عند المنع من أمر تتشوّف إليه النفوس والأهواء، كما أن الحاجة ماسة لإعادة النظر في كثير من القضايا الفقهية التي أخذت تحريماً وتحوُّطاً مقدساً في مرحلة ماضية للصحوة؛ مثل قضايا الرياضة بأنواعها المختلفة للرجال والنساء، وقضايا الفن الهادف، والهويات الترفيهية، والألعاب العلمية، والسفر والسياحة وغيرها. وهذه لو تأملنا فيها لا تخرج عن أصل الحلّ والإباحة، ويمكن أن تُنقّى من المفاسد والأضرار لا أن تُمنع في الأصل وتربط بالمروءات، وتُجعل معياراً للتمسك بالدين من عدمه”.
وأشار القحطاني: “أن هذه النظرة بما فيها من تشدّدٍ وتحوطٍ لا ينبغي أن تُعمَّم للجميع؛ كفتاوى ملزمة ومناهج تربوية محتّمة، في حين أن في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو للترفيه واللهو بما لو حصل في أيامنا تلك لعُدَّ من الممنوعات وخوارم المروءات، مثل إذنه ومشاهدته عليه الصلاة والسلام لرقص الأحباش بالرماح في المسجد، وسماحه للجاريتين عند عائشة أن تغنيا وتضربا الدف في يوم العيد، ومسابقته عليه الصلاة والسلام لزوجته عائشة، والسماح لها باللعب بالدمى وغيرها من مواقف وتوجيهات سامية تجمع الناس ولا تفرقهم، وتحببهم في الدين ولا تنفرهم، وتؤكد واقعية الشريعة في التعامل مع كل أصناف وشرائح المجتمع بما يحقق لهم الهداية، ويثبتهم على طريق الحق، ولو كان ببعض اللهو والمرح، وحتى يعلم الجميع أن في ديننا فسحة، كما أن فيه جدًّا و جهادًا واجتهاداً”.
منهج السلف الوسطي
الإسلام دين الوسطية الاعتدال، وقد تمثلث هذه الوسطية في الجمع بين الجد والترفيه في حياة خيار هذه الأمة الذين رباهم سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بن إبراهيم السبر بين هذه الصور المشرقة بقوله إن “الصحابة كانوا يروحون عن أنفسهم بالمرح والمِزاح والتسلية ولا يقصرون في شيءٍ من حق الله تعالى وإذا جَدَّ الجِدُ كانوا هم الرجال كما ثبت من فعلهم أنهم كانوا يتبارحون - أي يترامون - بالبطيخ فإذا جد الجد كانوا هم الرجال وكما قال الأوزاعي عن بلال بن سعد- يرحمهما الله-: “ أدركت أقواماً يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهباناً ، وهكذا كانوا- رضي الله عنهم - كما قال ابن تيمية - رحمه الله -: “ فرساناً بالنهار رهباناً بالليل” وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :« كان القوم يضحكون والإيمان في قلوبهم أرسى من الجبال”. وأكد السبر أن ترويح الصحابة وضحكهم وسمرهم وسفرهم وترفيههم لا يضعف إيمانهم ولا يفسد أخلاقهم، لأنه لا يتعدى وقتُ الترويح على أوقات الصلاة وذكر الله وصلة الرحم وقراءة القرآن أولئك هم الرجال (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).
وأضاف السبر: كانوا يروحون عن أنفسهم بعيداً عن سهر في ليل طويل، وسمر فارغ هزيل، يخل بحقوق كثيرة ومنها حق الجسم وحق الأهل وفوق ذلك حق الله تعالى وتبارك”.
واختتم بقوله: “إذا قرأنا سيرهم وتاريخهم نرى عدم الإفراط في استهلاك المباح لعلمهم بأن المهمة الكبرى للإنسان هي عبادة الله ولأن الوقت ثمين ومن منهج الإسلام عدم الإفراط في كل شيء حتى ولو كان في الصوم والصلاة والجهاد فكيف باللهو والترويح، كل ذلك حتى لا تُضَّيع الحقوق الأخرى وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة رضي: (صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً ) رواه البخاري”.