لا يكاد هنري كيسنجر - أشهر مسؤول أمريكي كبير جمع بين منصبي مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية - يغيب عن المسرح السياسي، لعوامل منها تقدمه في العمر، أو لأن أفكاره تجاوزتها المستجدات المتسارعة على مستوى العالم، لا يكاد يفعل ذلك إلا ويطفو على السطح من دون مقدمات، في قراءة سياسية تتناسب وتصوراته القديمة، عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية بحجم الحلم الأمريكي العابر لحدود الزمان والمكان، والقادر على ابتلاع كل أسماك البحار والمحيطات وحيتانها، حينها تسارع الصحافة وأجهزة الإعلام وإن كان ذلك بحماسة أقل، لإطلاق الأوصاف عليها، تارة بأنها قراءة استراتيجية أمريكية عاقلة ممتزجة بنكهة يهودية ألمانية، تحاول فرملة اندفاعة غير مسؤولة تباشرها الإدارة الأمريكية، وخاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتي أريد لها أن تكون حاملة لطائرات الغضب الأمريكي الذي يسقط فوق رؤوس شعوب الأرض من دون تمييز. ساح بنا هنري كيسنجر بعيداً، في أعماق تاريخ الصراعات والنزاعات المسلحة التي شهدتها قارته القديمة (أوروبا)، ولم تتوقف حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي رأيه فإن معاهدة ويستفاليا لعام 1648م هي التي رسمت معالم النظام الدولي الذي ما يزال قائماً حتى اليوم، لأنها جاءت بعد ولادة عسيرة عانت منها القارة الأوروبية بعد حروب استمرت ثلاثين عاماً، كانت الدول التي هي في معظمها نظم ملكية مستبدة، ترسل قواتها لفرض مبادئها ومعتقداتها الدينية على الأقاليم الأخرى، وهو ما تفعله إيران اليوم، ويتلخص جوهر معاهدة ويستفاليا على مبدأ الفصل بين السياستين الداخلية والخارجية، ويورد كيسنجر في قراءته تعريفاً للسياسة الدولية التي تم التوصل إليه في ذلك الوقت، على أنه “تفاعل الدول فيما بينها في إطار حدودها القائمة”، وافترض بناء على هذا الفهم، أن ذلك التوجه هو الذي أدى إلى تقييد دور القوة في العلاقات بين الدول.

البؤرة الساخنة

لكن قراءة كيسنجر هذه تقفز فوق الوقائع القائمة حينما يتصل الأمر بمنطقة الشرق الأوسط، وهي بؤرة ساخنة للصراعات والنزاعات المسلحة، والتي لم تتوقف تأثيراتها على مجمل العلاقات الدولية، فقد ذكر كيسنجر في قراءته القافزة فوق الحقائق، أن دولاً ثلاثاً فقط لها أسس تاريخية، هي مصر وتركيا وإيران، مما أدى إلى تعطيل إمكانية تطبيق نظام ويستفاليا على المنطقة، على حين أن حدود الدول الأخرى برزت إلى الوجود نتيجة تقاسم غنائم انهيار الامبراطورية العثمانية بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، من دون أن يأخذ بنظر الاعتبار التمايز الديني والمذهبي والعرقي، بيد أن سقطات الكبار عادة ما تكون بوزنهم المفترض، حتى إذا تجاوزا مرحلة أرذل العمر، وربما التقدم في العمر هو الذي دفع كيسنجر لحجب الأسس التاريخية عن إسرائيل التي دعم كيسنجر في الماضي وجودها استنادا إلى أساطير بالية، ولكنه أعطاها الحق في استعادة ما كانت تعتبره ويشاركها في تلك القناعات، حقاً تاريخياً لليهود في فلسطين، فهل هو تعديل لمعتقداته القديمة، أم هي محاولة للتنكر لصفحة واحدة وفي حالة مؤقتة، كي يتم تمرير الصفحات الأكثر سوءاً من قيام إسرائيل الآن، استناداً إلى إعادة رسم مخلفات خارطة سايكس بيكو، على أسس ما بعد 11 سبتمبر 2001، فإذا كان الأساس التاريخي يحتل هذه المكانة في رأي كيسنجر، فكيف يمكن أن ينظر إلى كيان الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تمتلك عمقاً تاريخياً، وحدودها الراهنة هي نتاج صراعات ونزاعات بين المستوطنين الأوروبيين على اختلاف أعراقهم والبلدان التي ينتمون إليها، مع السكان الأصليين للعالم الجديد الذي تم اكتشافه على أيدي المغامرين من البحارة الأوروبيين، وبعد أن استقر المهاجرون الأوروبيون الأوائل، في القارة التي تحمل اسم مكتشفها، بدأت الصراعات بين القراصنة أنفسهم، فتمت إزاحة الفرنسيين والإسبان من كثير من الأراضي التابعة اليوم للولايات المتحدة الأمريكية، فهل تمت الاستعاضة عن الأساس التاريخي والأساس الأخلاقي بشرعية الولايات المتحدة الأمريكية بما تمتلكه من قوة غلابة؟

قراءة استراتيجية أم أمنيات استعمارية؟

موقف الولايات المتحدة الأمريكية الذي عبّر عنه هنري كيسنجر، فيما يتصل بإيران بشكل خاص يثير علامات استفهام كبيرة جداً، عن المدى الذي تستمر فيه الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الدعم الاستراتيجي المفتوح لإيران ككيان غير قابل للنقاش في مرتكزاته الأساسية، متجاهلة أن إيران الحالية نشأت من الجمع بين الخديعة والقوة العسكرية، فأين يرى كيسنجر الأساس التاريخي في إيران الحالية؟ هل يكمن في الانسجام السكاني بوحدة العرق أو وحدة الدين فيها؟ أم أن كل الأراضي الواقعة ضمن خارطة الجغرافيا السياسية لإيران الحالية، مثل إقليم الأحواز العربي وإقليم هرمزكان وإقليم بلوشستان، كانت على مر التاريخ أراض عائدة لها؟ أم تراه يستند على حقائق التاريخ القديم، حينما كانت بلاد فارس إمبراطورية مترامية الأطراف، ومرت كلحظة عابرة في تاريخ أمم الشرق القديم، ولم تتمكن من أن تصنع حضارة أصيلة كما حصل بالنسبة لمصر أو ميزوبيتيميا (بلاد ما بين النهرين) أو الصين، فتقوضت أركان تلك الدولة العقيمة بالفتح العربي الإسلامي، ولم تترك شيئاً تعتز به الإنسانية، فكراً أو فلسفة أو تلاقحاً مع الحضارات الأخرى، بل ظلت منطوية على نفسها، وضلت طريقها قبل منتصفه وبادت مبكراً، ولكنها لانعدام حافز الإقناع الحضاري في تجربتها القديمة، تريد تحت لافتة الإسلام المهجّن فارسياً الحفاظ على وحدتها السياسية بوجه الأعاصير التي تطرق أبواب المنطقة.

هل يصلح التاريخ القديم لوحده أن يكون أساساً راسخاً لمنح الشرعية لقيام الدولة الحديثة؟ وهل تستحق الدول التي تعيش على هامش تاريخ التجارب الأخرى السحق تحت عربات الجيوش الأقوى في عالم اليوم؟

لو اعتمدنا معيار الأساس التاريخي لبقاء الدول حتى في غرف الإنعاش السياسي، فقد لا نجد إلا عدداً محدوداً منها التي يمكن أن تستحق وصفة البقاء، لأن على معظمها، وفق القراءة الاستراتيجية القديمة الجديدة لكيسنجر، أن تجمع أغراضها وترحل بعد إغلاق مكاتبها وتسليم مفاتيحها للدول الغازية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية بل في المقدمة منها، لأنها ستكون أول دولة فائضة عن الحاجة الأخلاقية للاستمرار كقوة عالمية، بل كدولة أساساً، لا سيما وأنها مثقلة بأوزار تجارب عاتية في تعاملها مع معظم شعوب العالم، لأنها تفتقر إلى شرعية البقاء بحكم عدم امتلاكها لشرعية النشوء، ومع ذلك فإن منظّري الاستراتيجيات العالمية ومنهم هنري كيسنجر وبريجنسكي، وهما من أصول أوروبية، لا يستطيعان هضم هذه الفكرة، وبدلاً من تطبيق مقاساتها على بلدهما الجديد، فإنهما لا ينظران إلا إلى منطقة الشرق الأوسط باعتبارها بؤرة الصراع القادم، التي قد تحدد مستقبل مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في لعبة التوازنات الدولية، وربما تدفعها من القمة التي وصلتها إلى منحدر سحيق، كما فعلت المنطقة نفسها حينما تحطمت على سواحلها امبراطوريات كبرى، وآخرها الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية بعد حرب السويس عام 1956م.

الأساس التاريخي لصيانة الحدود

ولو توقفنا عند الأساس الذي دفع بهنري كيسنجر لتأكيد سرمدية حدود كل من مصر وتركيا وإيران، وبالتالي جعل حدود الدول الأخرى مفتوحة على كل الاحتمالات، فينبغي أن نعترف بأن معرفة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بتاريخ الشرق القديم، لا ترتقي إلى مستوى معرفته بتاريخ أوروبا، وهو أمر لا يتعارض مع زمن التخصص ولا ينتقص من المكانة العلمية المبهرة لكيسنجر، ففي هذه المنطقة نشأت حضارات بعضها ظل محصوراً في نطاق دول ولم تخرج منها، على الرغم من محاولاتها المستميتة للتوسع والتمدد، وربما تمثل الحضارة المصرية الفرعونية أبرز النماذج على الحضارات التي ظلت محصورة داخل مصر، أما الإمبراطورية الفارسية فقد حاولت غير مرة التمدد على الأراضي المجاورة، ولكنها كانت على الدوام تتلقى من الدروس ما يدفعها للانكفاء إلى داخل حدودها المرة تلو الأخرى، وكان ذلك يحصل على يد العراقيين، وهي الصفحات المستنسخة حالياً من سفر التاريخ، غير أن العراق ظل لوحده حالة الاستثناء بين كل تجارب الإمبراطوريات القديمة والجديدة.

ربما مرت على تاريخ الإنسانية إمبراطوريات كانت راسخة الجذور كإمبراطورية روما وإمبراطورية الإسكندر المقدوني، وكذلك الإمبراطوريات الحديثة كالعثمانية والبريطانية والفرنسية، ولكن التاريخ لا يدلنا على أن بلداً واحداً جدد نفسه مرة أخرى وأقام شعبه إمبراطورية ثانية كما فعل العراقيون، فبعد إمبراطورية بابل التي امتدت من وسط العراق إلى بلاد الشام ومصر ووصلت إلى اليمن، وأخضعت بلاد فارس وأفغانستان، قامت الدولة العربية الإسلامية في عهد الخلافة العباسية وأصبحت بغداد منارة للفكر والفلسفة والطب والعلوم والآداب، وحكم الخليفة العباسي في بغداد، أراض تمتد من الصين شرقاً إلى المغرب العربي، وكانت تحت سلطته خمس وخمسون دولة من دول الزمن الراهن، فهل تعطي تلك الحقائق العراق حقاً بالمطالبة بأقاليم الدول التي حكمها الرشيد؟.

امتد عمر الإمبراطوريتين العراقيتين القديمتين قروناً طويلة، على حين أن الإمبراطورية الفارسية لم تلبث إلا برهة خاطفة من الدهر، حتى تقوّض بنيانها من القواعد، من غير أن تترك حسرة حتى عند الفرس أنفسهم أو تترك موروثاً صالحاً، فهل مرت هذه الحقائق التاريخية على كيسنجر وهو يعطي شهادة لمصر وتركيا وإيران من دون سائر بلدان الشرق الأوسط؟ وهل يريد منحها حصانة للخلود في كياناتها،ويضع الأخرى على مشارح التقسيم؟

أمريكا وروسيا بدلاً

من بريطانيا وفرنسا!

تنطوي كلمات كيسنجر على تواطؤ دولي جديد، بين مركزي الاستقطاب الدولي المعاصر، الولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت ممتلكات بريطانيا وفرنسا، وأوروبا القديمة كما كان يحلو لدونالد رامسفيلد وزير دفاع الولايات المتحدة الأمريكية أن يصف دول أوروبا، وهو الذي أشرف على تنفيذ الصفحات الأولى من القرن الأمريكي، بحربين كبيرتين في أفغانستان وفي العراق.

وروسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفيتي القديم، بكل ما كان يحمل من تطلعات خرافية إلى ما وراء الحدود الممتدة من فيلاديفوستوك على المحيط الهادي شرقاً وحتى سان بطرسبيرغ على سواحل بحر البلطيق غرباً، وتفصل بينهما سبع ساعات في موعد شروق الشمس، فجاء بلاشفة جدد من قادة التجربة الشيوعية بعد أن كانوا جزءاً من طاقم الشهود المشرف على تسجيل حالة وفاة الإمبراطورية التي أقامها جوزيف ستالين على وقع مارشات دولة القياصرة الغائبة عن المسرح، الحاضرة في عقول الحاكمين في سان بطرسبيرغ التي استعادت اسمها بفضل البلاشفة الجدد، بعد أن غيره البلاشفة القدامى إلى لينينغراد.

كيسنجر تحديداً استبعد ثلاث دول في الشرق الأوسط فقط من خطر التقسيم، وربما ألقى إليها جرعة من مخدر لتستلقي على سرير الانتظار لتقلبات المزاج السياسي أو الخطط الاستراتيجية للقوى الكبرى، والتي قد تفترض لاحقاً أن الدول الثلاث محملة بأوزار أزمات داخلية، تفوق في قوتها ما تواجهه الدول الموضوعة على لائحة “سايكس بيكو” الجديدة، لأن المعاهدة القديمة فقدت قدرتها على تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، التي امتلكتها خلال قرن من عمرها، على الرغم من أن مؤشرات التقسيم ألقت بظلال قاتمة فوق خارطة العراق من خلال مشروع جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي، والذي كان قد قدمه لمجلس الشيوع عندما كان عضواً فيه، وحصل مشروعه على موافقة المجلس وإن أًطلق عليها صفة غير ملزمة، لكن شطر السودان إلى دولتين يمكن أن يبعث برسالة إلى شعوب البلدان الموضوعة على مشرحة التقسيم، بأن عليها أن تعد نفسها للانشغال بحروب داخلية في جوهرها مع أقاليمها السابقة لتبدو وكأنها نزاعات خارجية من أجل إخضاعها لقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، في فض المنازعات الدولية، إزاء الوضع الناشئ عن هذه المتغيرات، كان لا بد من البحث عن بديل يكرس الحقائق الاستراتيجية الجديدة الناجمة عن غروب شمس الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية واللتين كانتا قد ورثتا ممتلكات رجل أوروبا المريض، أي الدولة العثمانية، ونشوء الإمبراطوريتين الأمريكية والروسية.

يمكن تأشير حقيقة واحدة تشترك بها الدولتان الكبريان، واللتان تتقاسمان مناطق النفوذ وتمتلكان أعتى الأسلحة وأكثرها فتكاً، هي أنهما لا يمكن أن تحافظا على تعهداتهما تجاه حلفائهما مهما بلغت درجة العلاقة وتوزعت على كل المحاور، مع تثبيت استثناء واحد وهو إسرائيل، فهي الدولة المحمية بالمظلة الأمريكية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن للخروج على تقاليد السياسة الدولية، وعلى الرغم من النقص الحاصل في مكونات نشوء إسرائيل بقوة السلاح أصلاً في بيئة غريبة عليها، فإن يدها أطلقت من دون قيود لتمارس أسوأ سياسات التمييز العنصري والديني مع الفلسطينيين، فسكت العالم عن طابعها العدواني التوسعي، على حين أن أياً من الالتزامات المعلنة من قبل الاتحاد السوفيتي السابق تجاه حلفائه لم تصمد أمام الاختبارات العملية على الأرض، مع استثناء فني واحد في تفاصيله وهو تجربة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، والذي تمكن من الصمود حتى بعد سقوط التجربة الشيوعية مما دفع بالزعيم الكوبي إلى القول بأن زعيم الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف قد نجح في سنوات معدودة فيما لم تنجح به الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من سبعة عقود من الزمن، وصمدت كوبا -وبصرف النظر عما إذا شاركنا الزعيم الكوبي الإعجاب بما صنعه لبلاده خلال حقبة حكمه من عدمه- بوجه هذا الإعصار الذي ترك ظهرها مكشوفاً على كل الاحتمالات، مع أنها لا تبعد إلا بضعاً من عشرات الكيلو مترات من مدينة ميامي الأمريكية، على حين أن موسكو حينما شعرت بوطأة التورط في أفغانستان، تخلت عن حليفها نجيب الله خان، وتركته منفرداً وجهاً لوجه في مواجهة أخطار انسحاب الجيش الأحمر من بلاد رجل الثلج، كما إن الزعامات السوفيتية خذلت العراق عندما كان بأمس الحاجة إلى تفعيل معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين البلدين، سواء في الحرب العراقية الإيرانية، أو في أحداث عــــــــــــــــــــــام 1990 وحرب الخليج الثانية، مما عزز من مخاوف الدول التي تعتمد على منظومة تحالفات خارجية لحماية أمنها القومي، على خطأ هذا الخيار القابل للسقوط في ساحة أول اختبار ميداني.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد سجلت لنفسها أكبر عدد من حالات التخلي عن زعماء بلدان كثيرة على امتداد القارات، والذين كانوا يعدون من أقرب حلفاء واشنطن، وحرصوا على رعاية المصالح الأمريكية أكثر من حرصهم على رعاية مصالح شعوبهم، ولكنها في ساعة العسرة خذلتهم؛ بل وقدمت لهم نصائح على الضد مما كانوا يخططون له، ولعل تجربة سقوط شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي عقب انتفاضة الشعب الإيراني عام 1978م، أوضح دليل على أن الأوراق المحترقة، لا مكان لها في أرشيف دوائر صنع القرار الأمريكية، مهما بلغت قيمة الخدمات المقدمة من قبلهم في الماضي، ومهما قدموا من إغراءات للمستقبل، كما يأتي سقوط الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، ومن بعده سقوط الرئيس المصري المعزول حسني مبارك مع ما يحمله من مشروع للتوريث في عالم الجمهوريات الملكية، ليعيد للذاكرة السياسية كل أشكال الحنث بالالتزامات المتبادلة في العلاقات الدولية غير المتكافئة، حينما تجرى مخايرة فاصلة بين لغة المصالح ولغة القانون الدولي، أو المبادئ الأخلاقية المعتمدة في التعاملات الثنائية أو الجماعية.

السعودية ساحة الاختبار الجديد

هنري كيسنجر تخلى عن توجيه الرسائل غير المباشرة، بعد أن وجدت صعوبة في تفسير أغراضها أو تعدد مراميها، لذلك انتقل إلى لغة التصريح هذه المرة، ويقول في تساؤل حائر وله غرض معاً، (هل ينبغي على أمريكا أن تعتبر نفسها ملتزمة بتأييد كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة غير ديمقراطية بما فيها الدول التي تُعتبر مهمة في استمرار النظام الدولي؟)، ثم ينتقل من منطقة الظل إلى ساحة مكشوفة تحت أشعة الشمس، فيقول: (وفي هذا الإطار، هل تبقى المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، حليفاً فقط إلى اللحظة التي تبدأ فيها المظاهرات الشعبية؟).

فما هو الغرض من هذه الإشارة القاطعة؟ هل يلعب دور المحرض على قيام التظاهرات في المملكة العربية السعودية؟ كي يجد في حدث كهذا فرصة لفك الارتباط السياسي المعلن بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، من خلال اعتبار الحدث شأناً داخلياً وغضباً داخلياً وأي تدخل أمريكي سيبدو مخالفاً لما تبنته الولايات المتحدة من مواقف تجاه التظاهرات الداخلية المطالبة بالإصلاح السياسي.

أم أن كيسنجر أراد أن يبعث إشارة لإيران أن تحرك خلاياها النائمة في دول المنطقة، لتحقيق صفحات التمدد في منطقة الخليج العربي، منطلقة من ضرب أقوى الحلقات الباقية فيها، اعتماداً على الحياد الأمريكي، لأن السعودية بدأت تقود تياراً سياسياً قوياً لمواجهة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، بإعادة النظر بميثاق مجلس التعاون الخليجي، وتطويره إلى صيغة اتحادية قادرة على توفر الحد الأدنى المطلوب مرحلياً لمواجهة إيران ومطالبها بالبحرين واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، والأخطار الخارجية الأخرى، خاصة وأن إشارة كيسنجر إلى موضوع دعم التظاهرات الداخلية، تركها مفتوحة على الاحتمالات. ومن حق المراقب أن يتساءل عن جدية الأصوات المنبعثة عن طبول الحرب التي تقرع من دون توقف، فوق مياه المنطقة أو على مقربة من سواحلها، أو من بعيد لتلهب الأجواء معلنة لصيف ساخن جديد، وعما إذا كان هذا النوع من التهديد يخفي بين ثناياه تفاصيل صفقة سرية، تتخلى إيران في بعض مفرداتها، عن جانب من الطموحات النووية غير القابلة للهضم إقليمياً ودولياً، ولو على مستوى الإعلام لرفع الحرج عن المجتمع الدولي، العاجز عن الإتيان مع إيران بواحد من الألف مما ارتكبه مع العراق من فظائع، مع أن الفارق بين البرنامجين العراقي والإيراني شاسع، بمقابل إطلاق يدها لبسط الهيمنة على الخليج العربي، بما يمتاز من الأهمية الاستراتيجية للاقتصاد العالمي، كممول لما يزيد على ثلث إنتاج العالم من النفط الخام، ويلاحظ مراقبو المشهد النووي الإيراني، أن للتهديدات موسماً ترتفع فيه حدتها، على حين تخفت أصواتها، وكأن العالم نسي تماماً وجود هذا الملف الصاخب على طاولات التفاوض، وتلعب روسيا بوتين دوراً مزدوجاً في التعامل مع طموحات القنبلة النووية الإيرانية المنتظرة، فمن جانب لا تستطيع روسيا إخفاء قلقها إلى الأبد، من وجود إيران بأسنان نووية على حدودها الجنوبية، ومن جانب آخر فإن موسكو تستميت لتوظيف الدور الإيراني في مقايضات مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وعقد صفقات مصطبغة بلون الدم، لجعلها في واجهة المسرح السياسي الإقليمي المضطرب، والإعداد لعالم مأزوم تتحكم فيه روسيا وإيران بسوق الغاز العالمية، مع كل ما يوفره ذلك من ابتزاز للمستهلكين، خاصة بعد أن تمكنت إيران من بسط هيمنة محكمة على المشهد السياسي العراقي، مما يتيح لها ولروسيا، مد خطوط الغاز إلى الشواطئ السورية على المتوسط، متجاوزة بذلك خطها الأوروبي الذي يمر عبر أوكرانيا، والذي كان يسبب تصدعات سياسية دورية بين البلدين مع موسم تساقط الثلوج، ويمكن للمراقب الحصيف معرفة الأسباب الحقيقية لإصرار روسيا على إدخال إيران طرفاً مباشراً على خط حل الأزمة الداخلية في سوريا.

حروب بالنيابة

تعيد أحداث المنطقة وما فيها من تجاذبات ونزاعات محلية وإقليمية، صورة الحروب بالنيابة التي كانت سائدة بين المعسكرين الغربي والشرقي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي اقتربت من نحو 60 حرباً إقليمية، وإعطاء إشارة البدء للحرب الباردة التي كانت حروب النيابة تسخّنها حيناً، أو أن الخشية من تحولها إلى حروب مباشرة كانت تعجل من عمليات تبريد مفاعلاتها الملتهبة، ولم تقف نيران تلك الحروب في ساحتها المحلية؛ بل انتقلت مسارحها من أراضي الدول المتحاربة إلى أراضي دول أخرى وجدت نفسها في قلب حلبة الصراع التي تم إعداد مسرحها بدقة فائقة من قبل الدول الكبرى نفسها، ومما يعزز من احتمالات عودة الحرب الباردة، أن هناك دولة عندها فائض بالقوة وهي روسيا بوتين الذي يمتلك طموحاً زائداً عن حاجات بلده، ويريد توظيفه لدى إيران التي تعاني من شراهة عاتية للهيمنة الإقليمية، لأنها تعي أن عودتها إلى داخل حدودها الدولية، ستؤدي إلى انهيارها كما انهار الاتحاد السوفيتي قبل نحو ربع قرن وكان لذلك السقوط وقع مدو في عواصم العالم من دون استثناء، حزناً أو فرحاً. ظلت بنود اتفاقية سايكس بيكو وتفاصيلها سرية وخافية على ضحاياها الأصليين، وهم العرب، حتى سقطت روسيا القيصرية على يد البلاشفة بقيادة فلاديمير أليتش لينين، والذي سرعان ما وجه رسالة إلى (الشعوب العربية) كشف فيها حقيقة خطط بريطانيا وفرنسا ضدهم، تنكراً لما كانت بريطانيا قد أطلقته من عهود لقيام دولة العرب الكبرى في حال وقوفهم ضد إخوتهم في الدين، الدولة العثمانية.

فمن سيسقط كي يكشف للأجيال العربية القادمة حقيقة الاتفاقية الجديدة التي يحضّر لها مع انتهاء عمر “سايكس بيكو” عام 2016؟