كتابة - رولاند بنروز، ترجمة - أمين صالح:

في عشرينات القرن العشرين، اكتشف ميرو مصدرا سخيا للإلهام في ظاهرة الليل.. الحلم. وقد استطاع أن ينقل التأثيرات التي لا تـُقاس، والتي تنشط وراء نطاق الوعي، إلى مملكة الوعي في ساعات اليقظة. أصدقاؤه، من شعراء ورسامين سورياليين، اكتشفوا فيه أورفيوس الذي يستطيع أن يمضي إلى عالم الليل السفلي ويجلب، دون أن يُصاب بأذى، إشارات غامضة، والذي يستطيع أن يقدّم برهاناً على الروابط السرمدية بين العالم الذي نتحرك فيه بوعي، وذلك العالم المجهول الذي يغلـّفنا ويؤثر فينا.

الليل المظلم

ميرو هو القادر على حمل عالم النهار المضيء ومملكة الليل المظلمة معا. هذا لا يوحي بأن ميرو مأخوذ بالغموض والعتمة، فهو يعي تماما حيوية الضوء واللون في العالم الذي نعيش فيه. إن إدراكه للتباين بين الليل والنهار هو الذي يرفعه إلى مرتبة فريدة: الليل الذي قد يعرض نفسه كرمز للموت، هو أيضاً رحم الخلق. في الليل ينمو العشب، وفي الليل نستطيع أن نرى أبعد مما نراه في النهار.. فالتخوم – التي يختارها ميرو كأحد الرموز الأكثر إلحاحا - تبدو قريبة جدا منا، بينما في النهار تكون غير مرئية. وإذا كان ضوء النهار يعيد توكيد ودعم هوية العالم من حولنا، فإن الليل – الغني بالالتباس والتشوش- يفسد ثقتنا ويزعزع إيماننا. من جهة، نستطيع أن نجد عزاءً في سكون الليل. نشعر بالدفء في عناق الحب وثقة النوم. نبتهج بالإخصاب الفريد لساعات الظلام، وقت الحمْل ووقت النمو. نبتهج بالرؤى التي تولد في المخيلة. لكن، من جهة أخرى، يترصدنا الرعب الذي يولـّده الليل والعزلة والعمى والكابوس والشياطين والمجهول وأشكال الموت.

الظلام يطوقنا

إن الظلام يطوقنا مثل أسوار سجن، مع ذلك ينتظر السجين الليل ليخطط لهروبه. الليل يطبق علينا، غير أن الحيّز من حولنا يصبح أكثر اتساعاً وبلا تخوم. إحساسنا بالبعد يصبح مشوشا. الأقزام يصيرون عمالقة. وإدراكنا الطبيعي للأحجام والنسب يخضع لتحريفات مربكة. الزمن أيضا يغيّر إيقاعه. الرحلة الوجيزة بين النوم واليقظة يمكن أن تبدو لا نهائية في أحلامنا. لكن سواء كنا نياماً أو في حالة يقظة، فإن الليل يحمل معه حالة أكثر بدائية من النهار. إن مشاعرنا تكون أقرب إلى مصدر الوعي، وإلى المخاوف البدائية والآمال والذكريات، وهذا شيء لا تسمح به ساعات اليقظة التي تمارس نوعا من الضبط والتوجيه العقلاني.

أدرك ميرو قيمة الليل لما يمنحه من حرية روحية، ولما ينطوي عليه من غموض وتباين. إن الفرار من استبدادية العلاقات اليومية العادية، والرؤية التي تكافؤنا حين تكون المخيلة فعالة، يتضحان في الطريقة التي بها يترجم إلهامه. إنه يضفي خاصية جوهرية إلى الرؤى التي تنبع من المجال الكائن وراء نطاق الوعي.. هذه الرؤى التي تكون أكثر إشراقا وحيوية عندما تغلـّفنا التأثيرات المحرّرة للنوم والليل في نشوة متوحـّدة. إن شغفه بالمستحيل، بما لا يمكن تحقيقه أو بلوغه، وتزاوجه الصوفي بالنجوم.. هي عواطف متقدة وعميقة وثابتة، لكن الوسط الذي يستخدمه هو بصري، محدود، وأكثر مباشرة في مظهره.

الغامض النادر

في زمننا، الشغف الخارق، المتوحد، بما هو غامض وخفي، قد أصبح نادراً. وإن وهج الاكتشافات التقنية الحديثة قد أقلق ليل الروح المظلم. وميرو فنان حديث، تمتد حساسيته من السحر البدائي الكائن في رسوم الكهف إلى المواد العصرية المصنوعة، التي تتسم بالعادية والابتذال. الليل المظلم، بالنسبة له ولنا، لا بد أن يكون مضاءً بلونٍ متألق وبتضارب أفكارٍ متناقضة. إن ليل ميرو، ببساطة، يعكس حقائق عصرنا. وهو لا يتأمل الليل عبر استعارات ميتافيزيقية. كراصد لا يكل ولا يضجر، يقول: “أشعر بالارتباك حين أشاهد، في سماء هائلة، قمراً هلالي الشكل”. ويضيف: “في المناخ البصري المعاصر، أحب المصانع، الأضواء الليلية، العالم المرئي من نافذة طائرة. إن أحد أعظم الانفعالات في حياتي كانت ثمرة رحلة ليلية فوق واشنطن. المدينة التي تـُرى من الطائرة تبدو شيئاً مدهشاً وعجيباً”.

إن لمحة إلى العناوين التي تمثل عناصر متممة للوحات ميرو، ستقنعنا بهذا الشغف، وتمنحنا مفاتيح لفهم تلك الأشياء المرتبطة بالليل والتي تفتنه. هناك الأحداث الليلية الغامضة (قطرة ندى، منحدرة من جناح طائر، توقظ روزالي النائمة في ظل نسيج عنكبوت) والمناوشات الغزلية (أرقام وكواكب تعشق امرأة) والتأثيرات السحرية (أشخاص مفتونون بالنجوم يسيرون على هدي موسيقى منظر طبيعي ملئ بالأخاديد) والتلاحمات السريّة (امرأة ذات إبط أشقر تمشط شعرها بضوء النجوم) والنعومة الرومانسية (أغنية العندليب في منتصف الليل ومطر الصباح/ في ضوء القمر تجلس الشمس وتلاطفنا) والتلميحات إلى عودة الضوء (بنفسجة القمر تكسو خضرة الضفدعة عند رحيل الظلام/ الأمل يعود إلينا آن تفر الكواكب/ وهج الشمس يجرح النجم المتريث).

المرأة حاضرة

من جهة أخرى، نلمس حضوراً مهيمناً للمرأة في ليل ميرو. هناك: نساء وطائرات ورقية بين النجوم، نساء وصبايا يثبن مرحاً في اتجاه الليل، نساء مشعثات الشعر يرحّبن بالهلال. ثمة شعائر تمجّد حضور المرأة في الليل: طيور وشهب تطوّق امرأة في الليل، امرأة منوّمة بواسطة أشعة الشفق تلاطف السهل.. بالإضافة إلى لوحات أخرى مثل: نساء وطيور أمام القمر. وغالباً ما يكون حضور المرأة مصحوباً بـ “طائر الليل”. إنها العلاقة الحميمة التي تجسد الانطلاق والتحليق بعيدا عن كوابح النهار: النجم يرتفع، الطيور تحلـّق، والناس يرقصون. وفي موضع آخر نجد: امرأة تحلم بالهرب، سلـّم الهروب، رحلة الطائر السماوي، أجنحة الطائر تنزلق فوق القمر لتصل إلى النجوم.

مثل هذه العناوين، بحد ذاتها، توجّه بصيرتنا إلى النعومة والتحذير اللذين بهما يستجوب ميرو الفعاليات الليلية. من الشفق وحتى الفجر، يصبح الليل مسرحا مهيئاً من أجل دراما كونية غريبة فيها كائنات الليل والحلزونات وطيور الليل والضفادع والعناكب تتبادل المواقع مع النجوم والقمر في احتفال بهيج تقيمه امرأة: “نجم يداعب نهد زنجية”. إن هناك حياد ليلي، إلى مدى معيّن، لجميع الأشياء. الفضاء اللانهائي، الذي يظهر في البداية في “لوحات حلم”، يعزّز الإحساس بأن الليل الذي يؤكد شعورنا بلا محدودية المكان والظلام، بعيداً عن كونه نقيضاً للضوء فحسب، يحتوي على كل الألوان الممكن تخيلها. سماوات ليل ميرو غالباً ما تكون بيضاء، بينما النجوم والقمر، وحتى الشمس، تصبح سوداء أو مثقلة باللون. ورغم أن هذا الاستغراق الكلي بالليل يُلمس بشكل أكثر وضوحاً في اللوحات التي رسمها منذ “كواكب” (1940-1941)، إلا أننا نجد إشارة مدروسة إلى مجاز الليل والنهار في “المزرعة” (21-1922) حيث قرص الشمس النقي، المثـّبت في سماء زرقاء هائلة، يعثر على صداه في الظل الدائري الأسود عند سفح الشجرة في الأرض. في هذا الوثاق بين قطبي السالب والموجب، تجد الشجرة العظيمة اتجاه نموها من العتمة إلى الضوء. وفي لوحات أخرى، مثل “كلب ينبح في اتجاه القمر” (1926) يتعامل ميرو مع الليل كظاهرة مدركة أكثر منها كمناخ يغمرنا، ونجد هنا حضوراً مبكراً لذلك الرمز الذي سيتكرر كثيراً في ما بعد: سلـّم الهروب الذي يؤدي إلى عزلة الليل.