كتبت - سميرة سليمان: يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في تقديمه لكتاب «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»: إن جارودي في عرضه لهذه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- ولدولة إسرائيل- لم يؤلف كتابا بالمعنى التقليدي وإنما حرص على أن يجعل من الوقائع نسيجاً للحقائق وتكون مهمة التأليف في هذه الحالة هي وظيفة «النول» يمد الخيوط طولاً وعرضاً ويصنع مساحة من القماش قابلة للنظر وقابلة للفحص وقابلة لاختيار التماسك والمتانة». هكذا أشاد هيكل بالفيلسوف والمفكر الفرنسي المسلم الراحل روجيه جارودي، بأسلوب هيكل الذي عرض في كتابه لمجموعة أساطير صهيونية وهي: الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، اليهود شعب الله المختار، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، المحرقة النازية، العقيدة اليهودية والصهيونية السياسية والمسافة بين الاثنتين. إحاطة شاملة ويواصل هيكل حديثه قائلاً «الحقيقة أن آخرين حاولوا أن يقتربوا من الموضوع لكن جارودي تجاوز من سبقوه بالإحاطة الشاملة بكل الأساطير الإسرائيلية، بمعنى أن كل من سبقوه ركزوا على أسطورة واحدة في الغالب ولعل أكثر التركيز كان على المحرقة النازية «الهولوكوست» التي تقول الأساطير الإسرائيلية أن ضحاياها من اليهود وحدهم وصلوا إلى ستة ملايين»، مضيفاً: أن الضجة التي دارت حول هذه الأسطورة بالذات كانت مشادة بين الضمير أو الشعور بالذنب الأوروبي وبين محاولة لضغط عليه وتعذيبه لصالح المشروع الصهيوني، وكان من الطبيعي أن يحاول الضمير الأوروبي أن يبحث عن الحقيقة ويضعها في مكانها من التاريخ الإنساني، كما إنه كان طبيعياً من ناحية أخرى أن تحاول الحركة الصهيونية بذل قصارى جهدها لكي تضع إسرائيل في الموضع الذي أرادته لها على خريطة الشرق الأوسط. لقد أدان جارودي في كتابه بدعة الصهيونية السياسية التي تقوم على إحلال دولة إسرائيل محل «إله إسرائيل»، ودولة إسرائيل هذه برأي جارودي ليست سوى حاملة طائرات نووية حصينة تابعة لسيدة العالم مؤقتاً الولايات المتحدة الأمريكية، التي تريد أن تفرض هيمنتها على نفط الشرق الأوسط، الذي يمثل عصب النمو الغربي. لم يكن هذا كتابه الوحيد ضد صهيونية إسرائيل، بل جاء كتابه «محاكمة الصهيونية الإسرائيلية» ليفضح الأسطورة الصهيونية المؤسسة للسياسة الإسرائيلية حيث أن هذه السياسة تزعم تحقيق العدل بالاستعمار والاحتلال، وبذلك كما يقول المفكر الراحل «تشوه العقيدة الكونية الرائعة التي يدعو لها الأنبياء العظام لليهود»، وهذه الأسطورة تقود إلى الجريمة، فالمنظمة الصهيونية التي كانت تشكل عند وصول هتلر نسبة 5% من يهود ألمانيا العام 1932 حتى 1934م تعاملت مع النازية وعقدت الاتفاقات من أجل تأسيس كيان صهيوني قوي، وكانت السبب لدفع أعداد طائلة من يهود أوروبا يقادون إلى المجازر مع أن هؤلاء اليهود لم يكن مطلبهم إلا احترام عقائدهم وعاداتهم والحياة بسلام، وأوضح الكاتب أن سياساتهم التي انتهجوها أدت إلى اغتيال رابين وأيضاً اغتيال آمال السلام. لماذا أسلمت لم تنصب كتابات المفكر الراحل فقط على انتقاد الصهيونية ومزاعمها، بل كذلك كتب عن الإسلام، في العام 1981م أصدر جارودي كتابه «وعود الإسلام» أو «ما يعد به الإسلام»، الذي أبرز فيه العناصر الإيجابية في الإسلام التي تجعل منه الاختيار الوحيد أمام البشرية للخروج من المأزق، والنجاة من الهلاك المحقق، حيث تأكد لجارودي «قوة الإسلام في حل المشاكل التي يعيش فيها عالمنا اليوم»، وبهذا الكتاب «وعود الإسلام» تهيأ جارودي للإسلام حيث أعلن إسلامه في العام 1982م بجنيف. ولا يعتبر جارودي تحوله إلى الإسلام نقلة مفاجئة من الإلحاد إلى الإيمان، لأنه حتى عندما كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي العام 1933م، كان في الوقت نفسه رئيس الشبان المسيحيين البروتستانت، وانتسب للحزب الشيوعي كمسيحي. لقد وعى جارودي عند دراسته للثقافات غير الغربية الإمكانات الخاصة للإسلام. فالرجل لم يسلم بمحض الصدفة، بل جاء إسلامه بعد بحث طويل في حضارات وديانات العالم كله، يقول جارودي: «أحب أن أقول: إن انتمائي للإسلام لم يأت بمحض الصدفة، بل جاء بعد رحلة عناء بحث، ورحلة طويلة تخللتها منعطفات كثيرة، حتى وصلت إلى مرحلة اليقين الكامل، والخلود إلى العقيدة أو الديانة التي تمثل الاستقرار، والإسلام في نظري هو الاستقرار». وعن حيثيات إسلام جارودي يقول: «بدا لي الإسلام مثل حامل إجابة على أسئلة حياتي، لا سيما على ثلاث نقاط أسياسية بالنسبة للوعي النقدي لهذا العصر: لم يزعم النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبداً أنه اختلق ديانة جديدة، لكنه يدعونا إلى العقيدة الجوهرية لإبراهيم عليه السلام، في القرآن موسى والمسيح نبيان للإسلام. الإسلام لا يفصل بين علم الحكمة وحكمة الوحي، العلم الإسلامي في ذروته – في جامعة قرطبة – لم يفصل البحث في الأسباب عن البحث في الغايات. بعبارة أخرى أنه يجيب على السؤال «كيف» والسؤل «لماذا». بهذه الكيفية يصبح العلم والأسلوب في خدمة تألق الإنسان، وليس تحطيمه بإثارة رغباته وإرادة تسلط مجموعات أو قوميات. وفيما يتعلق بالوحي، فإنه لا يتعارض لا مع العلم ولا مع الحكمة، لكنه يعينهما على الوعي بحدودهما وبمسلماتهما. يتابع جارودي: الإسلام لا يعني الطاعة لمعنى الاستسلام، والجبرية والخضوع فهذا هو استسلام، لكنه الاستجابة لنداء الله سبحانه وتعالى استجابة نشطة حرة مسؤولة. التصوف والاستشراق يقرر جارودي في كتابه «وعود الإسلام» أن الغرب لديه – منذ مطلع عصر الرأسمالية والاستعمار – إصرار متصاعد على تجاهل كل حضارة ذات أصل غير أوروبي. وقد استمرت أوروبا في تجاهلها لحضارة الإسلام عبر قرون عديدة ولم تر فيه سوى عدو لدود، في حين أنه «ليس من الإنصاف في شيء أن يعتبر الإسلام كفراً كما كان الحال في عصر الحروب الصليبية – أو إرهاباً مثلما كان يوصف به إبان حرب التحرير الجزائرية، فلم يعد هذا الدين قطعة من متحف يقوم بفحصه مستشرق يبدي حوله أحكاما مسبقة وتعسفية». وعن التصوف، ينظر إليه جارودي على أنه بعد من أبعاد العقيدة الإسلامية العميقة، والصوفية برأيه هي شكل من أشكال الروحية الإسلامية بنوع خاص، هي توازن بصفة أساسية بين الجهاد الأكبر – ويعني الكفاح الداخلي ضد كل رغبة من الرغبات التي تجعل الإنسان ينحرف عن مركزه – والجهاد الأصغر، أي العمل من أجل وحدة وانسجام الجماعة الإسلامية ضد جميع أشكال الوثنية من سلطات وثروات وضلالات تبعده عن طريق الله. التصوف في الإسلام كما يذهب جارودي يهدف إلى التوعية بصورة أعمق بالتوحيد وتحقيق المزيد من التوافق بإيقاعية بين الإرادة البشرية والإرادة الإلهية، فلا الاقتصاد ولا السياسة ولا العلم ولا الفنون تستطيع الانفصال عن العقيدة التي تعيّن لها غاياتها الإلهية والإنسانية. فالحياة بجميع أبعادها تجد في الله وحدتها. انتقد جارودي الاستشراق حيث قال: إنه لم يكن حركة نزيهة منذ البداية، إذ كان الهدف منه تنفيذ مشروع يرمي إلى إدخال المسلمين في النصرانية. لم يقف دور الاستشراق عند حد مساعدة الهيئات التنصيرية والاستعمار والإمبريالية على الهيمنة على أراض واسعة وأجناس متعددة، إنما ساهم كذلك في بناء أسس لمشروعية الأحكام التعسفية التي جعلها الغرب ذريعة لاستغلال الشعوب الأخرى. لهذه العلة لم تتم دراسة الإسلام في أوروبا من أجل الوقوف على حقيقته، بل اهتم به المستشرقون لأغراض الصراعات الأيديولوجية. الإسلام والغرب يرى جارودي أن «التعصب» ظاهرة عرفتها الأديان جميعاً، وهي تخلط بين العقيدة وبين الصيغ الثقافية والبنى التنظيمية التي مارست تلك العقيدة عبر تاريخها الطويل، وراح كل فريق من المتعصبين يختار من الماضي مرحلة تاريخية يتكئ عليها لتسويغ مواقفه وممارساته في العصر الحاضر. يعقب فيلسوفنا على ذلك مبيناً أن الإسلام لا يعرف أبداً هذا التعصب المتحجر، فالقرآن يعيد ويبدئ أن الله أرسل لكل شعب أنبياء ورسل لكي يتاح لكل أمة أن تستوعب الرسالة الإلهية على طريقتها. من آخر المؤلفات التي قدمها لنا جارودي عن الإسلام كتابه «الإسلام وأزمة الغرب» الذي لا يتحدث فيه عموماً عن الإسلام، بل عن الإمكانات الجديدة لانتشاره في العالم الغربي، وعن الأسباب التي ترجع إلى جوهر العقيدة الإسلامية وتشكل مل هذه الإمكانات. يقرر جارودي حقيقة تاريخية وإنسانية عندما يعلن أن الإسلام أنقذ العالم من الانحطاط العام والفوضى، وأن القرآن الكريم أعاد إلى ملايين البشر وعيهم الإنساني، بالإضافة إلى روحاً جماعية جديدة. ويقدم فيلسوفنا مثالاً لما وصل إليه العالم من استعباد الروح الإنسانية، وتحطيم كل شيء واتباع نموذج جنوني للنمو، فيقول موضحاً انحطاط الحضارة الغربية وأثر ذلك على الكون: «بعد خمسة قرون من هيمنة الغرب، هيمنة لا يشاركه فيها أحد يمكننا تلخيص موازنته بثلاثة أرقام في العام 1982 مع حوالي 600 مليار دولار من الإنفاق على التسلح وضع ما يعادل أربعة أطنان من المتفجرات على رأس كل ساكن من سكان الكوكب.