^ المكـــان.. واحـــة شبـــه مهجـــورة غــرب مصــر مجــاورة لحــــدود ليبيـــا
كتب - علي الشرقاوي:
يفاجئنا الباحث البحريني الشاب حمد عبدالله، بكتاب جديد طازج وطري بمادته وأسلوبه، مكتوب منذ أكثر من قرن، يحوّل لغته إلى لغة صادرة عن قلبه وأحاسيسه، هو كتاب ( تشارلز بلجريف في ظلال واحة سيوة)، كتاب يأخذنا في جولة جميلة نادرة في أقاليم غير مطروقة بالنسبة لنا نحن أهل البحرين.
يأخذنا عبدالله إلى واحة سيوة التي يقول عنها «أنها واحة شبه مهجورة غرب مصر مجاورة لحدود ليبيا من الشرق تخفي جدران مبانيها وكهوفها أسرار أمم وشعوب سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين، ألا وهي واحة سيوة الأثرية. ارتحل عبر العصور رحالة ومستكشفون من جميع الأمصار قاصدين هذه الواحة بحثاً عن أسرار وآثار لخطوات أقدام ملوك وقادة خلّدهم التاريخ عبر العصور. ومن بين أولئك الذين جابوا صحاري سيوة قرابة العامين السير تشارلز دالريمبل بلجريف (1894- 1969م). بلجريف تلك الشخصية التي ارتبط اسمها فيما بعد بتاريخ البحرين حين تم اختياره مستشاراً لحكومة البحرين، وهو منصب شغله مدة 31 عاماً منذ العام 1926 وحتى العام 1957م.
تجربة غنية
إن عمل بلجريف في سيوه -كما يشير عبدالله- أفاده خصوصاً في المجال الإداري. فإن اختلاطه مع كبار رجالات البلدة وحتى الأهالي البسطاء ساهم في بناء شخصيته، وكل استفادته تلك ترجمها عندما حل مستشاراً لحكومة البحرين العام 1926م، وهو منصب شغله لأكثر من 31 عاماً. حيث طبق ما تعلمه من تجربته في سيوة سواء كانت في الإدارة الأمنية أو الإدارة السياسية أو حتى إدارة القضاء المحلي في جزر البحرين. عبدالله قدم لكتابه بالقول: تحتفي المنامة، بنيلها شرف تتويجها عاصمة للثقافة العربية، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على المكانة الثقافية التي وصلت إليها مملكة البحرين في الوطن العربي والعالم. مما يوجب على شباب البحرين الواعي تعزيز تلك المكانة على الصعيدين العربي والدولي، وإبراز مكانة البحرين ثقافياً وحضارياً في كافة المجالات الثقافية والفكرية. وهذا الشرف العظيم الذي حظيت به البحرين لهو دافع أساسي لي ككاتب بحريني للمضي قدماً في الكشف عن أسرار وخفايا لم يستعرضها المؤرخون المحليون والعرب من قبل أو لم يفصلًوا فيها، لذا أتت فكرة هذا الكتاب والذي استغرق إعداده قرابة العام. ومما دفعني إلى استكشاف وقراءة تاريخ ومغامرات بلجريف في سيوة بالتحديد هو الكشف عن أسرار وخفايا لم يستعرضها المؤرخون المحليون والعرب من قبل وذلك بهدف سد ثغرة في المكتبة الوطنية وإثرائها بإصدار يستعرض حقبة مجهولة من حياة تلك الشخصية.
فضاءات الكتاب
قسّم عبدالله كتابه إلى فصول رئيسة ستة، الفصل الأول يحكي تاريخ سيوة ويعطي للقارئ لمحة عامة عن تاريخ هذه البلدة الأسطورية الخالدة، ويستعرض الفصل الثاني تجربة بلجريف في الصحراء الغربية من شمال أفريقيا واستعداده للترحال إلى سيوة، والفصل الرابع خصص لوصف شامل للواحة كما رآها بلجريف، وبالنسبة للفصل الخامس فخُصص للعملية الاستكشافية التي قام بها بلجريف لضواحي البلدة، ويستعرض الفصل السادس أبزر العادات والتقاليد في سيوة والتي قام بلجريف بتدوينها.
ويشير عبدالله إلى اعتماده على عدة مراجع رئيسة على رأسها ما قام بلجريف بتدوينه في أول إصدار له حمل عنوان «سيوة : واحة جوبيتر آمون» (1923)، والذي دوّن فيه مذكراته الشخصية ومغامراته في سيوة. «بالإضافة إلى استعانتي بمراجع تطرقت إلى تاريخ سيوة وما قد تم استكشافه عبر الأزمنة من آثار قيمة فيها، ومن بين تلك المراجع كتاب «واحة سيوة» (1973م) من تأليف الأستاذ د. أحمد فخري المتخصص في التاريخ المصري القديم وآثاره. هذا بالإضافة إلى مراجع عربية وأجنبية متخصصة في استعراض الآثار المصرية والحضارتين الفرعونية والإغريقية.
وحول الغاية من رحلة بلجريف يقول عبدالله: ربما يتساءل البعض عن الغاية من وراء اختيار بلجريف استكشاف سيوة التابعة اليوم لمحافظة مطروح المصرية، والتي كانت تعرف في أوساط المؤرخين أيضاً اسم واحة جوبيتر آمون وتدوين مذكراته فيها، بعد أن طلب منه الإقامة فيها لسنتين للإشراف الإداري عليها. وكيف له أن لا يُدوّن تاريخ هذه الواحة الأسطورية فهي موطن لعديد من الآثار التاريخية التي لا تقدر اليوم بثمن، ومن أبرز تلك الآثار هيكل أو معبد أوراكل والذي يعرف أيضاً بمعبد جوبيتر آمون ومقابر جبل الموتى. ومما حفّز بلجريف والعديد من المؤرخين من قبله تدوين تاريخ هذه الواحة هو زيارة لإسكندر الأكبر والذي يعرف أيضاً بال إسكندر الثالث المقدوني لسيوة وتحديداً لمعبد جوبيتر آمون بحثاً عن المشورة الإلهية في المعبد. فما هو سر هذه الواحة الأثرية الساحرة التي جذبت لها القاصي والداني وخلد ذكرها المؤرخون والمستكشفون عبر الأزمنة؟ يسعى هذا الكتاب للكشف عن تلك الأسرار من خلال رحلة بلجريف إلى هذه الواحة الساحرة وتجربته فيها.
إرث بلجريف
يبين عبدالله أنه سبق بلجريف في استكشاف الواحة وتأريخ تاريخها العديد من الرحالة والعملاء من بينهم الرحالة والكاتب جورج الكسندر هوسكينز (1802-1863م) في كتابه «زيارة إلى الواحة العظيمة في الصحراء الليبية» (1837م)، بالإضافة إلى ما دونه الرحالة والكاتب البريطاني بيل سينت جون (1822-1859م) عن واحة سيوة، والذي أرخ مذكراته عن الواحة في كتاب أطلق عليه اسم «مغامرات في الصحراء الليبية وواحة جوبيتر آمون» (1849م). والكتاب يرصد ما قام بتدوينه من معلومات أثرية مهمة عن سيوة عالم الآثار والمنقب أوريتش بيتس (1883-1918م) في كتابه «الليبيون الشرقيون». ونذكر في هذا المقام أيضاً ما دونته المستكشفة البريطانية روزيتا فوربس (1890-1967م)، عن زيارتها لمدينة سيوة أثناء ترحالها في الصحاري المصرية – الليبية في أوائل القرن العشرين للميلاد في كتابها الذي حمل عنوان «سر الصحراء: الكفرة» (1921م)، ناهيك عن الكتب التي نشرت من بعد رحلة تشارلز بلجريف إلى سيوة والتي أرّخت تاريخ هذه الواحة الأثرية المهمة وأبرز معالمها.
ويؤكد عبدالله ان تجربة بلجريف في سيوة هي تجربة فريدة من نوعها، فهو لم يؤرخ تاريخ المنطقة فحسب، لكنه استفاد كما سنرى من تجربته الإدارية فيها، حيث أشرف على الإدارية العامة للواحة والحفاظ على النظام العام والأمن بإشرافه على قوات حفظ النظام، كما أشرف على عملية القضاء، بالإضافة إلى العديد من المسؤوليات الأخرى التي حملت على عاتقه، وجميع تلك المهام ساهمت في عملية نضجه إدارياً وسياسياً. ويضيف: لقد ترك لنا تشارلز بلجريف في الكتابات التي دونها عن واحة سيوة إرثاً تاريخياً مهماً عن تلك الواحة، وتقريراً مفصلاً لأبرز ما رآه وسمعه في ربوع أحياء هذه الواحة التاريخية. واليوم نستطيع القول بأن اسم بلجريف سيبقى مخلداً في ذاكرة سيوة جنباً إلى جنب مع عظماء العالم الذين ارتحلوا إلى تلك البقعة من رحالة ومستكشفين وقادة عسكريين وحتى حكام. ويتابع: لقد أعطت تجربة بلجريف في سيوة الكثير وأهم ما أعطته كيفية تعامله مع أهل المشرق العربي.
ورغم قسوة المناخ وانعزال البلدة عن باقي بقاع الأرض إلا أن بلجريف عشق الواحة، وقد أردف في خاتمة مذكراته قائلاً ما يلي عن تجربته في الواحة الأسطورية: «هناك مثل في مصر يقول: «إن من يذوق ماء نهر النيل سيعود حتماً يوماً إليه»، وأنا متأكد أن من يشرب من آبار سيوة يتمنى دوماً العودة لها مجدداً». لم يدرك بلجريف حين دوّن مذكراته الخاصة بسيوة ما كانت تخفيه الأقدار له، ومن بعد تجربته التي قضاها في أرض معبد جوبيتر آمون كانت أرض زهرة الخلود في ملحمة جلجامش بانتظاره، وهي أرض البحرين، لكن عبق نخيل وعيون أرض واحة سيبقى محفوراً بداخله إلى الأبد.
عين بلجريف
يذكر عبدالله أن من أبرز الصفات المذمومة محلياً التي رصدها بلجريف في سيوة بين الأهالي أثناء دعوتهم للطعام، كراهية التلفت انتظاراً لقدوم مزيد من الطعام على السفرة، وكراهية التهام قطعة من اللحم وتبديلها بأخرى، كراهية النفخ في الأكل بقصد التخفيف من حرارته، وكراهية انغماس أصابع اليد في جزء ما من الطعام، ومن ثم أكل جزء آخر، كراهية مناداة الضيف لخدم المضيف في بيته.
نبذة عن المؤلف
حمد إبراهيم عبدالله، كاتب وباحث بحريني من مواليد المحرق، صدر له : «إيتوري ميوتي أسطورة إيطاليا الفاشية» 2010، و»صموئيل زويمر لقاء المسيحية بالإسلام» 2011، أشرف على إنتاج وإخراج العديد من الأفلام الوثائقية من أبرزها فيلم «دموع على جزيرة» 2009، يعمل في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الرياض، منتسب لجمعية الغولدن كي العالمية للتفوق العلمي بالولايات المتحدة الأمريكية، ولجمعية المائدة المستديرة للحرب الأهلية الأمريكية في المملكة المتحدة، وهو عضو في جمعية تاريخ وآثار البحرين.