استطاع الرئيس جمال عبدالناصر إخراج مصر من حدودها التاريخية، لتقود خلال سنوات معدودة من ثورة 23 يوليو 1952، حركة القومية العربية وخاصة بعد قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956م، وما أعقبها من رفضه الإنذار البريطاني الفرنسي المصمم إسرائيلياً، وتصدي الشعب المصري للعدوان الثلاثي في خريف العام نفسه، بحيث استطاعت مصر بقيادة الرئيس عبدالناصر لتجربة الحكم الجديد، بحكم ثقلها السياسي والسكاني وموقعها الجيوبولوتيكي، تخطي بلاد الشام التي انطلقت منها الفكرة القومية الحديثة لأول مرة، وتأسست فوق أرضها أكثر الأحزاب القومية عراقة وفاعلية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، وسائر الحركات القومية الأخرى والتي تعاملت مع تجربة عبدالناصر بإيجابية عالية، لأنها أضافت رصيد مصر كله إلى النضال القومي، كما تخطت مصر دور العراق الذي كان يحكمه الملك فيصل الثاني، أحد أحفاد الشريف حسين الذي أطلق الرصاصة الأولى للثورة العربية الكبرى في العام 1916م، بسبب ضلوع حكوماته المتعاقبة في ذلك الوقت بتوجهات السياسة الغربية، ودخول العراق في سياسة المحاور والأحلاف التي واجهت رفضاً شعبياً واسع النطاق، على طول الوطن العربي وعرضه، منذ ذلك الحين وحتى اليوم، بذلت محاولات حثيثة خارجية وداخلية، لإعادة مصر إلى داخل حدودها الجغرافية والسياسية، لإلغاء دورها الوحيد الذي تستطيع أن تتجسد كقوة إقليمية ودولية فاعلة، ولكي تعلن حالة الطلاق مع الإرث العربي للرئيس جمال عبدالناصر، ولتقطع الصلة مع القضايا العربية التي ظل الشعب المصري وفياً لها، ولم يكن ترفاً سياسياً طارئاً انتاب الزعامة المصرية حينذاك.

وطيلة حكمه تعرض الرئيس عبدالناصر إلى حملة كراهية غير مسبوقة لأي من قادة المنطقة الذين سبقوه في العصر الحديث، ودخلت على خطها قوى دولية وإقليمية خارجية، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وداخلية ممن تضرروا من السياسات التي اتبعها النظام الجديد، وخاصة ما يتصل بإدخال الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة كقوة توازن استراتيجي صاعدة مع التحالف الغربي، ولكن اللافت أن حركة الإخوان المسلمين التي شاركت في حرب فلسطين عام 1948م، بمتطوعين لعوامل دينية لها قدسيتها لدى كل مسلم مؤمن بدينه، وترتبط بموضوع المسجد الأقصى، وبعد أن ظلت تشعر أن لها نصيباً في التغيير الثوري الذي حصل في 23 يوليو 1952، بحكم وجود عدد من قادة الثورة على مقربة من بعض تشكيلات الإخوان، لم ترتق في موقفها من المعارك التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، أو ضد سياسة الأحلاف التي أرادت القوى الغربية الكبرى فرضها على مصر والوطن العربي، إلى مستوى ما تطرحه من قناعات دينية معلنة في بياناتها وخطابها السياسي، ولم تضع جهدها في نصرة وطنها في توجهاته لإقامة تجمع دولي كبير باسم حركة عدم الانحياز، أو معارك البناء الاقتصادي الداخلي، إلى مستوى التحديات التي يواجهها الأمن الوطني المصري المرتبط مصيرياً بالأمن القومي العربي، ويبدو أنها لم تشأ أن تسجل تلك المعارك باسم قوى ثورية جديدة قد تنزع عن القوى الإسلامية شيئاً من احتكار التمثيل السياسي، فدخلت مصر في حقبة من الصراع بين الثورة وحركة الإخوان المسلمين، فاقت في شدتها حالة الصراع بين القوى والأحزاب السياسية المحسوبة على النظام الملكي الذي أسقطته الثورة، مثل حزب الوفد، بل وصل الأمر إلى فتح صفحة من المواجهة الساخنة بين النظام والجماعة، وعانت الساحة الداخلية المصرية من تداعيات محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس عبدالناصر على أيدي عناصر من جماعة الإخوان أو محسوبة عليها أو بعلم قيادتها، وإن كانت الحركة تنفي ذلك وتعدّه مجرد فرية اختلقتها الحكومة لتسويغ الملاحقات ضد عناصرها، وأدى تغليب التناقضات الثانوية على التناقضات الرئيسة إلى إضاعة الفرصة من مصر لتحتل مكانتها التاريخية بين دول العالم، زعيمة لحركة البناء والتطور في آسيا وأفريقيا.

عبدالناصر بوابة مصر

بعد رحيل الرئيس عبدالناصر، وحينما كان يخوض آخر معاركه السياسية القومية، في مؤتمر قمة عربي استثنائي، لرأب الصدع الذي نتج عن حوادث أيلول الأسود عام 1970م في الأردن، وحيث كان الصراع السياسي بين القوى الدينية والقوى المدنية في مصر خفت حدته إلى حدود مقبولة، ووصول الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى سدة الحكم وتقلب السادات بين خياراته المتصادمة، عاد المشهد القديم إلى نقطة الانطلاقة الأولى، وأخذت الأحداث مسارات جديدة اختلطت فيها الألوان، على نحو غير قابل للفهم، وطفت صور الماضي القريب على السطح، وكأنها تجد لها متنفساً على مستوى التحرك السياسي والإعلامي، وأخذت تلك التوجهات بعداً أكثر بروزاً وفاعلية نتيجة لطبيعة شخصية السادات الميالة إلى الاستعراضات السياسية، فاليسار الذي كان أكثر تنظيماً من بقية القوى السياسية في البلاد، تعرض لضربة من جانب السادات في أحداث 15 مايو 1971م فيما سمي بتصفية مراكز القوى والتي أطلق عليها وصف ثورة التصحيح، وهو ما أتاح الفرصة للبديل الإسلامي ليملأ قسماً من الفراغ الناشئ عن الملاحقات التي تعرضت لها قوى اليسار، وتحقق له جانب من ذلك، نتيجة لدخول مؤسسات الدولة المصرية السياسية وخاصة مؤسسة الرئاسة بثقلها الاجتماعي، والإعلامي والأمني على خطها، وعلى خط إحداث القطيعة بين توجهين، قومي بأفقه الواسع الممتد من شواطئ الأطلسي إلى الخليج العربي بضفتيه، وقطري ضيق لا يرى أبعد من اللحظة العابرة التي يمر عليها، وبدأت خطة الانقضاض على إرث الرئيس عبدالناصر وإنجازاته السياسية والاقتصادية، وتم تقليب صفحات الماضي بنزعة عدائية، حتى وصل التشكيك في كل خطوة أقدم ناصر عليها، بما في ذلك بناء السد العالي الذي أعطى لمصر أعلى درجات الأمن المائي الاستراتيجي، كما تعرضت برامجه بإقامة صرح النهضة الصناعية في البلاد إلى التشكيك عبر دراسات فاقدة للموضوعية ومدفوعة الأجر من مكتب الاستعلامات الأمريكي في القاهرة، كما واجه تشريع قانون الإصلاح الزراعي حملة من جانب المتضررين منه، أو الذين عاد إليهم وعيهم على حد ما جاء بأحد كتب توفيق الحكيم بعد رحيل عبدالناصر.

لقد خلفت هزيمة الخامس من يونيو 1967م جرحاً عميقاً في الوجدان المصري، وتركت تأثيراتها على عبدالناصر نفسه، فبذل المستحيل من أجل تهيئة الفرص الحقيقية لتحقيق النصر واستعادة الأرض والكرامة، ويوم رحيله كانت تفاصيلها مكتملة، وهو ما تحقق في حرب رمضان أو أكتوبر عام 1973م، والتي أعادت الثقة إلى الشعب المصري بنفسه وقدرته على مواجهة أعدائه، إلا أن إضاعة النصر العسكري المصري اللامع في تلك الحرب بتوقيع الرئيس أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد، فتح أبواب مصر على صراعات من نوع جديد لم يشهد المجتمع المصري مثلها من قبل، إذ استوت الحركات الوطنية والقومية المصرية مع القوى الإسلامية في مقاومة سياسة التطبيع مع إسرائيل، وحصرتها في نطاقها الرسمي الضيق، مع أن ما طرح في البورصة السياسية من إغراءات أمام المواطن المصري كانت لو طرحت في بلدان أخرى لأحدثت تبدلات في التوجهات العامة للمجتمع.

حقبة الرئيس السادات

ومع التقلبات السياسية التي فرضتها حقبة الرئيس السادات على الشارع المصري، اجتاحته سيول جارفة، من شعارات استعراضية وخطاب سياسي لتفريغ المجتمع المصري من قناعاته السياسية والفكرية تدريجياً، من دون أن يترك ذلك ردات فعل صاخبة، وكان الهدف منها تكفير المصريين بأهم قضايا الأمة العربية وإبعادهم عنها، وهي القضية الفلسطينية وقضية الأمن القومي العربي، وإشعار المصريين بالقطيعة مع المحيط العربي الذي ينتمون إليه وينحدرون من أصوله، وارتفعت في سماء مراكز الإعلام والتوجيه المعروفة التمويل والتوجهات دعوات قطرية ضيقة لم تشأ التعامل مع الماضي بروح نقدية مسؤولة، وتم تنشيط الفعاليات الثقافية المبشرة بعالم جديد من الرفاهية وبحبوحة العيش للمصرين، إذا ما نفضوا عن أنفسهم غبار الارتباط بالقضايا القومية وتخلوا عن انتمائهم لتاريخهم وقضايا الأمة وأقاموا بينهم وبين العرب جدرانا شاهقة، وامتلأ الشارع بشعارات جذابة على أيدي كتّاب كبار عن فرعونية مصر تارة، أو أفريقيتها تارة أخرى، وضرورة التفاتها إلى همومها المحلية، في محاولة لحصر مآسي مصر في دخولها على خط القضايا القومية بثقل استثنائي، وبدأت الكشوفات المعدة بدقة لتحاكي عواطف المصريين، تطرح في أجهزة الإعلام ومراكز البحوث والدراسات، التي تناسلت بصفة لافتة في حقبة قصيرة، عن الخسائر التي تكبدتها مصر بسبب خوضها لحروب لا صلة لها بها، وكذلك إضاعتها لفرص التطور الاقتصادي والتكنولوجي، بسبب تحول موارد البلاد نحو الإنفاق الحربي، ونزلت إلى السوق روايات ومؤلفات لكتّاب كبار تبشر بولادة عصر القطيعة مع الماضي.

المصريون أفشلوا التطبيع

لكن الجهود التي بذلتها الدوائر الأمريكية والإسرائيلية، وجندت من أجل نجاحها العشرات من مراكز الدراسات وشركات العلاقات العامة، من أجل إحداث خرق في جبهة الرفض الشعبي لسياسة التطبيع مع إسرائيل، اصطدمت بجدار الوعي الشعبي، على الرغم من أن أموالاً طائلة أنفقت لتحويل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل، إلى حاجة شعبية يومية، وليس مجرد وجود سفارات ترفع أعلام الطرفين.

تحضرني هنا قصة معبّرة وذات مدلولات عميقة، وهي أن أول سفير إسرائيلي في مصر وهو إلياهو بن اليسار، والذي كان مديراً لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ظن أن مهمته ستكون يسيرة إلى حدود بعيدة تكافئ في إنجازاتها، توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فبدأ بخطة علاقات عامة قادته إلى زيارة نقيب أطباء الأسنان في عيادته، بحجة حاجته إلى علاج أسنانه، ووسط دهشة النقيب حضر السفير بن اليسار، وقبل أن يبدأ الفحص، أراد طبيب الأسنان أن يستدرج السفير إلى نقطة خطط لها على عجل ولكن بعناية شديدة، أخبره بأن أجور معاينته عالية جداً وقد لا تروق السفير، وقبل المباشرة يجب أن يعرف الزبائن حقيقة الالتزامات التي عليهم دفعها، السفير ومن منطلق الإحساس الغبي بالتفوق، قال له ضع الرقم الذي تشاء ولن نختلف على قيمة المبلغ، انتقل نقيب أطباء الأسنان المصري إلى الصفحة الثانية من خطته، حينما أبلغ السفير أنه يتلقى أجوره بالشيكات وبالدولار الأمريكي فقط، لم يكترث بن اليسار لهذه اللعبة الثقيلة على وفق ما توصل إليه من استنتاجات، فأخرج السفير دفتر شيكاته، وطلب منه الطبيب أن يسجل أولا مبلغ ألف دولار، وعندما كتب المبلغ أخبره أن يكتب على الشيك عبارة “لصالح منظمة التحرير الفلسطينية”، صعق السفير من هذا الفخ، وهو الذي ظن أن رؤساء النقابات هم جسره المفتوح إلى نقاباتهم ومن ثم إلى المجتمع المصري، ولكنه في أول غزوة له عاد مكسوراً مخذولاً، وفي هذه الحادثة ذات الرمزية العالية، أكبر دليل على أن أصالة الشعب المصري ليست صناعة ناصرية، وإنما تؤشر أن عبدالناصر هو الذي استجاب لهذا الوعي المخبوء في النفوس.

يمكن أن تكون قصة السفير الإسرائيلي بن اليسار في القاهرة، حصلت بهذه التفاصيل المعبّرة، ويمكن أن تكون وقعت بتفاصيل أخرى، ولكنها وبأي صورة حصلت، فإنها تعكس بعمق حقيقة الشخصية المصرية وانتمائها للهوية الوطنية والقومية ولتاريخ مصر وحضارتها الأصيلة، ووقفت بوجه الضغوط والإغراءات التي أرادت فرض التطبيع مع إسرائيل، لتقفز فوق إرث حضاري عميق لمصر التي سجلت لنفسها فصولاً حاضرة في بطون كتب التاريخ في خوضها معارك الأمة في تاريخها البعيد أو القريب وخاصة في معركتي عين جالوت وحطين، بصرف النظر عن هوية من يحكمها.

استراحة المحارب

وكما كان للإخوان المسلمين فترة استراحة المحارب، لزمن قصير مع الثورة، فقد شعروا بالانفراج السياسي الذي سيفتح لهم باب النشاط العلني على مصراعيه، ونجح الرئيس السادات في استدراج دور الحركات الإسلامية من دون استثناء إلى جانب خطابه السياسي، في مواجهة اليسار المصري والتيارات الناصرية وحتى الأحزاب القديمة، حتى وصل الأمر بالإعلام الرسمي أن أطلق على السادات وصف الرئيس المؤمن وعلى مصر اسم دولة العلم والإيمان، ولكن ذلك الزواج لم يعمّر طويلاً على الرغم من أن بعضاً ممن يسمون بالمفكرين الإسلاميين، تغاضوا عن اتفاقية كامب ديفيد، مقحمين تاريخ اليهود في المدينة المنورة في دولة الرسول صلى الله عيه وسلم، ومع ذلك حصل الطلاق مبكراً، وانتهت المواجهة بين السادات والحركات الإسلامية بمقتله على يد الملازم خالد الإسلامبولي، أثناء العرض العسكري في ذكرى حرب أكتوبر في العام 1981م، وأعدم الإسلامبولي ولم يكن لإعدامه تأثير على نوعية العلاقة بين القوى الإسلامية المصرية، ونظام حكم خليفته، فحينما جاء حسني مبارك إلى رئاسة مصر خلفاً للسادات، ابتكر الإخوان المسلمون ثنائية المعارضة والموالاة مع النظام في آن معاً واستمروا بممارستها نحو ثلث قرن، وعجزوا عن أن يقدموا تسويغاً وجيهاً ومقنعاً لوجودهم في معظم برلمانات حقبة مبارك وهو ما كان مبارك يوظفه لتحسين صورة نظام حكمه على المستوى الدولي، في الوقت نفسه الذي يطرحون الآن، مواقف متشددة مع ما يسمونه بفلول نظامه بعد أن أسقطته ثورة يناير، فهل هناك خط فاصل بين من عمل كوزير في عهد السادات ومن كان يشغل منصباً نيابياً؟

من يتابع أخبار مصر هذه الأيام لا يمكن أن يخفي قلقه، بل وهلعه على هاوية الفوضى التي تستدرج إليها مصر بعناد قوى الإسلام السياسي ورفضها التوصل إلى تفاهمات استراتيجية لخدمة مستقبل مصر، فقد باتت الجماعة تمارس أسوأ أشكال الدكتاتورية والاستئثار بالحكم ولكن بأدوات ديمقراطية، فحركة الإخوان المسلمين والتي حصدت نسبة عالية من مقاعد مجلس الشعب المصري، وفي غضون أشهر معدودة من سقوط نظام مبارك، غيّرت خطابها السياسي على نحو أفقدها المصداقية أمام الناخب المصري، ومن يتابع الخط البياني لها ولسائر قوى الإسلام السياسي في الممارسات الانتخابية التي شهدتها مصر منذ التغيير وحتى اليوم، سيلاحظ من دون عناء، أن حجم التأييد لها كان يتراجع باستمرار وبنسب لافتة، وذلك بسبب إعطائها وعوداً لم تتمسك بها، لأنها انساقت وراء مغريات السلطة، ولأنها أطلقت الفوضى في الشارع، على نحو ربما يلمّح إلى أنها غير قادرة على إثبات جدارتها في الحكم في الظروف الطبيعية.

الإخوان المسلمون والخطر الإيراني

يلاحظ مراقبو المشهد السياسي في مصر، أن هناك نقصاً استراتيجياً في وعي حركة الإخوان المسلمين خصوصاً، ومعظم الحركات والأحزاب ذات التوجه الديني، بمخاطر التهديد الإيراني للأمن القومي العربي الذي تشكل مصر واحدة من أهم ركائزه، كما كانت في الماضي وكما ستكون في المستقبل، فيما لو استعادت قرارها السياسي المستقل عن الإرادات الخارجية، وفيما لو أرست قواعد مواقفها السياسية والأمنية الاستراتيجية، على أساس أن التهديد الذي يواجهه الأمن القومي العربي، آتٍ من الخارج ومن تحالف بالنتيجة بين الغرب وإسرائيل في واحد من أضلاعه، وإيران كقوة إقليمية تحمل مشروعاً توسعياً يفوق حدود الطموح المشروع ويريد التسلح نووياً لضبط إيقاع المنطقة على وفق ما ترسمه إرادة الولي الفقيه في طهران، وقد يكون تداخل الألوان فيما تطرحه إيران من شعارات إسلامية، أكثر خطورة مما تحمله المشاريع العدوانية المكشوفة لأي طرف آخر بما في ذلك نوايا التمدد الإسرائيلي من النيل إلى الفرات، فدولة ولاية الفقيه لا حدود لها، وأسقطت من زمن بعيد شعار شرطي الخليج وجاءت ببرنامج لا يتوقف إلا عند الهيمنة على كل البلاد الإسلامية من دون استثناء.

الانعكاسات المباشرة على الوضع في مصر نفسها في حال تداخل الصور مع بعضها ونجاح إيران في التقدم خطوة واحدة داخل مصر، يكمن كمرحلة أولى في إثارة عوامل جديدة للانقسام الداخلي وإثارة النزاعات المذهبية التي تمثل الوعاء المثالي لتوسيع نطاق التدخل الإيراني، تارة باسم التوفيق بين المتصارعين، وتارة تحت لافتة الدفاع عن الأتباع، وربما كان لبعد مصر عن خط التماس المباشر مع إيران، ونواياها الحقيقية في إقامة إمبراطورية فارسية جديدة فوق الأرض العربية، مستغلة ما ترفعه من شعارات إسلامية تجد لها سوقاً رائجة وسط سيل من التضليل، ودوراً مهماً في عدم تبني معظم القوى والأحزاب السياسية والإسلامية في مصر، لمواقف حاسمة في مواجهة خطط إيران في زرع الخلايا السرية والجاهزة للتحرك للعبث بالأمن الوطني، وتهديد الأمن القومي العربي، عند أول إشارة تصدر إليها من مركز التوجيه في قم أو طهران، وهذه التزامات يفرضها ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك على جميع الدول الأعضاء، لا سيما وأن الجامعة العربية تأسست في مصر وكان لمصر دور في صياغة ميثاقها، وفيما بعد إمضاء معاهدة الدفاع العربي المشترك، ثم أن لدولة المقر خصوصية في المنظمات الدولية الإقليمية كلها، هذا فضلاً عن أن الأمناء العامين للجامعة العربية، كانوا على الدوام من مصر، ابتداء من عبدالرحمن عزام باشا وعبدالخالق حسونة، وانتهاءً بنبيل العربي، ما عدا الفترة التي شغل هذا الموقع الشاذلي القليبي بعد نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس بصفة مؤقتة، وتعليق عضوية مصر في الجامعة بسبب زيارة الرئيس أنور السادات إلى فلسطين المحتلة وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد. يمكن الاستدلال على عدم وجود رؤية ناضجة لموضوعة الأمن القومي العربي لدى التيارات الإسلامية، والمصرية منها على وجه الخصوص، لما يمكن أن تشكّله إيران من تهديد له، بأن الحركات الدينية عموماً تعدّ نفسها ذات برنامج أممي تختلط فيه القوميات مع بعضها من دون تمييز بين عربي وأعجمي إلا في التقوى، ويمكن أن تكون إيران أكثر قدرة على تحريك مثل هذه الملفات، بحكم الخبرة في العمل السري التي اكتسبتها المؤسسة الدينية في إيران في مراحل مختلفة، مما يعطيها الفرصة لإظهار ما لا تبطن من قناعات ورؤى فكرية أو سياسية. وهنا تلتقي معظم الحركات الدينية التي تطرح برنامجاً سياسياً معلناً لتطبيق حاكمية الله، منها من يعمل لإحياء الخلافة الإسلامية، وهي الحركات الإسلامية السنية السلفية المتشددة، ومنها من تعمل لإقامة دولة الولي الفقيه وهي جماعة صغيرة خرجت من رحم المذهب الجعفري الإثني عشري، وتجد تعبيرها المباشر بتجربة الحكم في إيران والتي تريد إثبات صوابها عبر ما توفره أجهزة الدولة من سلطة ومال سياسي، وعلى الرغم من أن التباينات الفقهية بين المنهجين، مما لا يمكن حصرها، إلا أن ذلك لم يمنع بعض قيادات حركة الإخوان المسلمين التاريخية، من فتح الأبواب التي ظلت مغلقة بوجه إيران طويلاً على المستويات الفكرية والسياسية والفقهية، مستجيبة لإغراء إعلامي تمارسه المرجعيات الإيرانية مدعوم بقوة المال، لما تسميه بحوار التقريب بين المذاهب، واقع الحال أن هذه الدعوة تنطوي على مغالطة مؤكدة يراد جعلها بوابة مفتوحة للتنقل وفتح المراكز السياسية والثقافية خارج إيران، فالمطلوب هو ليس تخلي أي طرف من المتحاورين عن قناعاته أو معتقداته، تحت ضغط الترهيب السياسي أو إغراء المال، بل المطلوب هو التقريب بين أتباع المذاهب، مع احتفاظ كل طرف بما لديه من متراكم وموروث، واحترام ما لدى الآخرين، فالتقرب من أسواره لا يؤدي إلا لمزيد من الانقسام والتشرذم والضعف، فالمذاهب الإسلامية أخذت قوالبها الثابتة وأشكالها واجتهاداتها القائمة منذ زمن طويل، وقد لا تجد لديها فسحة من الوقت، لتجربة حظها في حوارات جديدة، لم تتمكن قرون طويلة من التقريب بينها، بقدر ما أضافت إلى أسباب الخصومة تراكمات أخرى وحساسيات جديدة.

مصر تعيش مخاضاً صعباً وطويلاً، وعلى نتائج انتخاباتها الرئاسية، يتوقف استقرار حقائق سياسية واجتماعية ومعادلات استراتيجية كثيرة على قوائمها، المصريون الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ذهبوا مدفوعين بمشاعر الخوف، لأن من لا يرد أحمد شفيق اندفع للتصويت لمحمد مرسي، ليس اقتناعاً به أو ببرنامجه، ومن لا يرد محمد مرسي ذهب للتصويت لأحمد شفيق ليس إيماناً به أو ببرنامجه، ولأن صناديق الاقتراع هي الفيصل في من يكون مع أو من لا يكون فينبغي أن يقبل بها الفرقاء جميعاً.

ولأن لمصر ثقلها العربي والإقليمي والدولي، فإن عودتها إلى ساحاتها وهي متماسكة قوية بثوابتها القومية المعروفة، سيمنح الأمن القومي العربي نقطة كبرى في مواجهة الأخطار الجدية التي تتهدده من حدوده الشرقية وفي فلسطين ومن الجهات الأربع، وخاصة بعد أن خسرت الأمة العربية ضلعاً مكيناً من أضلاع المعادلة القومية في مواجهة التهديد الإيراني، وهو العراق.