بقلم ـ عبدالستار الراوي
طهران.. فندق الاستقلال الأربعاء 9 أبريل 2003
سجل كاتب السطور في يومياته: كانت ليلة الاحتجاز في فندق (الاستقلال) من أشق الليالي وأطولها علينا، بصفة خاصة النساء والأطفال، ولا أظن أن أحداً من الـ(57) عراقياً ينسى تباريح التاسع من أبريل ولا بوسعه تجاوز القهر النفسي ومعاناة اللحظات المريرة التي مررنا بها، فما إن أدخلنا المسلحون الحكوميون في حجرات الفندق، حتى امتلأ الطابق الرابع بقوات الحرس وهم يجوبون ببنادقهم الممرات ومن حين لحين يطرقون الأبواب، مرة لإجراء (التعداد) ومرة أخرى لتدقيق الأسماء، وثالثة لتفتيش الأمتعة، يعقبها سؤال وجواب بذريعة مراجعة البيانات الشخصية، حاولوا بوقاحة متناهية إغاظتنا وعمدوا إلى شتى الأساليب الفظة، كانت الشماتة بادية على وجوههم، وهم يواصلون تعليقاتهم الساخرة على هزيمة العراق، لم يذق أحد منا طعاماً ولا جرب نوماً أو هجوعاً.. النازلة الوطنية بحجم الكون، كان الجرح بليغاً، الوجوه تلتصق بفضائيات التلفزيون أو بوابات الجحيم، ونحن نشاهد بغداد العظيمة تحترق ما بين الرصافة والكرخ، تغطي سماءها غيمات الدخان الأسود، فيما كانت مليشيا الأحزاب ومرتزقة أحمد الجلبي يجهزون حملات الموت بصحبة المارينز للانقضاض على أحياء العاصمة، ويستعيد (الأدلاء) المستعرقون دور أبي رغال، يفتحون الطريق أمام قوات العدو، لتنفيذ مهماتها الاحتلالية، دبابات الغزاة تتجول في أنحاء بغداد، تتوقف في رأس جسر الجمهورية وتسدد قذائفها تجاه وزارة التخطيط فتصب في نوافذها شواظ من نار، لتنتقل من حطيم التخطيط إلى ضفة بغداد الأخرى، إذ تعيد قناة (العالم) ببهجة وانشراح عرض مسرحية تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس .
على الرغم من وجع الضغط النفسي المبرح كان علينا أن نضع تقدير موقف لما سيؤول إليه مصيرنا، وكان الأطفال والنساء شغلنا الشاغل، الصعوبة الكبرى، لذلك أرسلنا عبر الهاتف إشعاراً إلى مندوب إحدى الفضائيات العربية يوجز حالة البعثة الراهنة، وسبق لنا أثناء عملية تطويق السفارة أن أجرينا اتصالاً هاتفياً مع مراسل قناة (أبوظبي)، فيما لم نتمكن من تأمين الاتصالات الهاتفية مع عميد السلك الدبلوماسي أو مع أي من الزملاء السفراء العرب لإخطارهم بالموقف .
الاحتجاز
في اليوم التالي وفي تمام الساعة الثانية بعد الظهر الخميس 10/4/2003 أصدر الضابط المشرف أمراً عاجلاً لجنوده يقضي بالتحقق من عدد الموجودين، بتلاوة الأسماء، استعداداً لمغادرة الفندق، بعد أن أجري التعداد، أخرجنا مع عائلاتنا تحت الحراسة المشددة من الباب الخلفية، ووجدنا الحافلتين معتمتي النوافذ ذاتهما بانتظارنا، ووجدنا ثمانية مسلحين يحتلون صفي مقاعد الحافلة الأمامية والخلفية، وفي الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، غادرنا فندق الاستقلال في طهران إلى جهة مجهولة لم يعلن عنها؟!
التكتم على حركة الحافلتين كان يزيد من ريبة الجميع ويضاعف من قلقنا، وسألت الضابط المشرف أكثر من مرة عن سبب احتجازنا ؟ ولأي غرض تحاط حركة الحافلات بهذه السرية والكتمان كلهما، وكان يجيبني بكلمة واحدة (أوامر)، ولا يزيد عليها حرفاً.. وحاولت إفهامه أن ما يقوم به مخالف للقوانين والمعاهدات الدولية، وأننا وعائلاتنا محميون ونتمتع بالحصانة الدبلوماسية، وأن عملية اختطافنا واحتجازنا تضع الجمهورية الإسلامية في دائرة الشبهات، لكونها أولاً تقف في صف الولايات المتحدة الأمريكية في عدوانها، وأن إيران بسلوكها هذا تعدّ طرفاً رئيساً في الحرب على العراق؟!
عند هذا الحد أجاب بعصبية: إنك لم تعد سفيراً، وإن أعضاء البعثة فقدوا صفتهم الدبلوماسية بسقوط نظام صدام حسين!!
والغريب أن العبارة الأخيرة التي نطق بها المشرف، هي الجملة السياسية ذاتها التي ستكرر على لسان الحرس ومحققي الباسيج ونوهت بها الخارجية لاحقاً .
الطريق نحو المجهول كان عذاباً مستطيراً، الأسئلة لم تتوقف، والخوف يملأ عيون الأطفال فيما لم تكف النساء عن التلاوة والدعاء ..
الطريق كان مرهقاً وطويلاً، إذ استغرقت الرحلة نحو سبع ساعات ونصف، لنكتشف عند وصول الحافلتين إلى المحطة الأخيرة، أننا في مجمع يدعى (سار) يقع في محافظة مازندران شمالي إيران ويطل على بحر قزوين، كان الجو ممطراً وعاصفاً وشديد البرودة، فيما كان موقع المجمع منعزلاً وبعيداً عن مركز المدينة ويبدو كما الثكنة العسكرية، فثمة أربعة أبراج للرصد والمراقبة، وهناك العديد من نقاط السيطرة، وحرس منتشرون بين البنايات وفي الطرقات وعند مداخل الأبواب ومخارج، وزعنا على عدد من البيوت، بلغنا الضابط المشرف بعد الانتهاء من تلاوة أسمائنا أننا محتجزون وأن حركتنا ستكون من الآن مقيدة في أماكن إقامتنا، وأن هناك حراساً يتناوبون عند الأبواب، ممنوع علينا الخروج منها باستثناء الذهاب إلى مطعم المجمع وعلى وفق مواعيد الوجبات الثلاث، وبحراسة الجنود..
الجمعة 11/4/2003
في وقت مبكر من صباح اليوم ومع أول شعاع من النهار صحونا على ضجيج قرع الأبواب كانت الطرقات سريعة ومتتالية، فوجئنا بمجموعة من شقاة (الباسيج) المسلحين، أطلقوا على أنفسهم صفة (محققين)، يرتدون ملابس مدنية رثة، وفي هذا الوقت المبكر طلبوا منا على الفور الإجابة عن جملة من الأسئلة، تعاملوا معنا ومع عائلاتنا أثناء عملية الاستنطاق في غاية الوضاعة، وكانوا عديمي اللياقة أثاروا الفزع بين الأطفال والنساء بأساليب الضغط النفسي من ضروب التهديد والوعيد، مما يتنافى بالقطع الأكيد مع أبسط قواعد التحضر وبديهيات التعامل الإنساني فضلاً عن الخرق الفاضح للأعراف الدبلوماسية والمعاهدات الدولية.
وقررنا الامتناع عن الرد على أي سؤال يوجهه هؤلاء.. وأعلنّا الإضراب عن الطعام وملازمة مكان الإقامة، وطلب كاتب السطور مقابلة آمر المجمع .
خطبة الجمعة: السيد خامنئي
أثناء تناولنا طعام الغداء في مطعم المجمع، كان تلفزيون العالم ينقل وقائع صلاة الجمعة من جامعة طهران، وكانت بإمامة السيد علي خامنئي في جامعة طهران، إذ ألقى خطبة تجاوزت مدتها الساعة، قد تكون الأطول في تاريخ المرشد الأعلى، تحدث فيها بلغة (المنتصر) وبطريقة التشفي الاستعراضية، كما لو كانت إيران طرفاً في الحرب الأمريكية، لم يخف المرشد سروره بالإنجاز الأمريكي، ولم يدار غله من غريمه (العراق)، كيف لا يبتهج وعهد صدام حسين (العدو الأكبر)، زال وانتهى.. استهل خطبته بالقول (موضوعنا اليوم هو العراق)، إن ما حدث ليس قضية واحدة، بل أربع قضايا :
بعد الإعلان عن اختفاء صدام حسين، فإن “سعادة شعبنا في هذا الأمر تتساوى مع سعادة شعب العراق، موقفنا هو موقف شعب العراق، لقد فرح أيضا شعب العراق بذهاب صدام، ونحن كذلك سعدنا، كان صدام شخصاً دكتاتورياً، سيئاً، ظالماً، لا يعنى بالعهد وكثير الشر، لا علاقة للسرور بزوال صدام، بمجيء المحتلين”!!!
«... الشعب العراقي كان حيادياً في هذه الحرب، وأعلنت الحكومة الإيرانية حيادها. ومعنى الحياد هو أن كلتا الجبهتين، جبهة صدام وجبهة الغزاة ظالمة”. بناء على هذا في هذه القضية وهي سقوط صدام على يد القوات الأمريكية والبريطانية، موقفنا هو أننا لم نساعد أياً من الاثنين الظالمين، وسعدنا جداً لسقوط صدام كما سعد شعبنا.
القضية الثانية: الكوارث التي لحقت بالشعب العراقي. بخلاف سقوط صدام وتنصيب آخر بدلاً عنه .
القضية الثالثة: تتمثل بتعرض بلدٍ مستقل لعدوان واحتلال عسكري. “الحلم الذي يحلم به الأمريكان والإنجليز لن يتحقق، ذلك أنه في كل مكان تقف المقاومة بلغتها وأسلوبها بوجه الاعتداء ولغته وسلوكه، ولن يكون الشعب العراقي المعروف بغيرته وحميته مستثنى من هذه القاعدة” . القضية الرابعة: هي الإدارة الأمريكية التالية للعراق، الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تسيطر على إدارة العراق، عن طريق حاكم أمريكي عسكري .
بصرف النظر عن التناقضات الواردة في خطاب المرشد، وعن مظاهر الفرح الرسمية فإن ما تسبب به الحرس الثوري وقوات الباسيج، من محنة البعثة العراقية ومعاناة العائلات، لم تكن لتحدث على النحو المهين لو لم تكن بأمر من القيادة العليا للجمهورية الإسلامية، فلا أحد يجرؤ على اختطاف (57) وامتهان حرمة بعثة دبلوماسية بكاملها مع أفراد عائلاتهم سوى أمر من مكتب المرشد نفسه، ومع اختلاف الدوافع والدواعي، فقد سبق ذلك تجربة السفارة الأمريكية في الأيام الأولى للثورة الإيرانية، والتي تمت بموافقة الإمام الخميني نفسه وتأييده، ووصف احتلال السفارة الأمريكية بـ(الثورة الثانية)!!
طهران يوم 11/4/2003
إشعال النار في مبنى السفارة العراقية :
تناقلت الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية مشاهد الغزو الهمجي على مقر البعثة العراقية في طهران الذي خطط له وأخرجه الحرس الثوري ومليشيات حزب الله، بالتنسيق مع بعض المقيمين العراقيين من حزب الدعوة وأنصار محمد باقر الحكيم، بدأ الاقتحام ظهيرة يوم الجمعة 11/4 بالاستيلاء على السفارة العراقية الكائنة في شارع ولي عصر، وجرى سلب الكثير من موجوداتها وتدميره. وزعم المتحدث باسم الخارجية الإيرانية مساء يوم الجمعة: (أن موجة غضب المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين عبرت عن نفسها بالهجوم على الوكر الدبلوماسي!! وبذلت قوات الأمن مجهوداً كبيراً لإخراج الغاضبين من السفارة وتولت القوات الحكومية تشديد الحراسة على المبنى)!!
بطريقتها الخاصة شاركت الصحافة الإيرانية في احتفاليات النصر، إذ عبرت عن ارتياحها لاحتلال العراق بدعوى الثأر من الرئيس صدام حسين وأنه يستحق هذه النهاية بسبب الجرائم التي ارتكبها طوال ثلاثة عقود ضد الشعب العراقي والشعب الإيراني!!
وغطت الصفحات الرئيسة للصحافة الإيرانية صور تمثال الرئيس صدام حسين وهو يهوي في وسط بغداد على الأرض، وأكدت أن سقوط صدام بهذه السرعة يعكس فقدان الشعبية المزعومة للنظام العراقي وكذب الإعلام العراقي بصمود الجيش والقوات العراقية أمام الهجوم الأمريكي البريطاني. وأكدت الصحافة المحافظة أن العراق أصبح حالياً مستعمرة أمريكية، مشددة على أن الشعب العراقي لن يقبل بحاكم عسكري تنصبه الولايات المتحدة عليه. ورأى المحافظون عبر صفحاتهم أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة للعراقيين من جهة وللغزاة الأمريكان بسبب الرفض القاطع للشعب العراقي لاحتلال بلادهم من الولايات المتحدة الأمريكية.
ورأت صحيفة (جمهوري إسلامي) المتشددة أن زعماء النظام العراقي هربوا إلى خارج العراق بعد اتفاق تم بين صدام حسين والولايات المتحدة الأمريكية يقضي بتوفير الحماية لهم فيما لو أمروا بعدم مقاومة الأمريكيين في بغداد.
من جهتها، رأت الصحافة الإصلاحية: أن المطلوب من قيادة الجمهورية الإسلامية أن تتصرف بحكمة مع الواقع الجديد، إذ تقتضي الضرورة الوطنية عدم اتخاذ مواقف متشددة حيال الولايات المتحدة بوصفها تمثل اليوم القوة الأولى في العالم، مما يمكن أن يضر وبنحو كبير المصالح الوطنية الإيرانية مؤكدة أن موقف المحافظين الإيرانيين حيال تطورات العراق ينقصه الحكمة والعقلانية.
وتظاهر في طهران اليوم الخميس لليوم الثاني على التوالي العشرات من حزب الدعوة ومجلس الحكيم، تعبيراً عن سرورهم لسقوط نظام صدام حسين مطالبين بإقامة نظام ديمقراطي يقرره الشعب العراقي، ووزعت الحلوى على المارة في حي دولت أباد الذي يتواجد فيه عدد من العراقيين، ورفع المتظاهرون صور رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد باقر الحكيم ورددوا شعارات منددة بصدام حسين.
16 أبريل
كانت الليالي الإيرانية السبع في مجمع سار، من أطول الليالي مكابدة لنا جميعاً خاصة للنساء والأطفال الذين تعرضوا للاستفزاز الرخيص جراء سلوك الباسيج، الذين كشفوا عن الأعماق الواطئة التي تتصف بها أجهزة ولاية الفقيه، وإمعاناً في الحقد المرضي على العراق وشعبه، كان التعبويون يعمدون كلما دخلنا قاعة المطعم وخلال الوجبات اليومية الثلاث عرض (فيديو) مأساة احتلال العراق ووقوع بغداد أسيرة بأيدي الفاشية الأمريكية، مما نضطر معه إلى مغادرة القاعة على عجل.. لذلك كان مجرد خبر مغادرة المجمع (المنفى) في اليوم السابع كاف لأن يشعرنا باستعادة الذات المقهورة بسبب التعامل اللاأخلاقي .
عدنا إلى طهران مساء يوم 16 أبريل، بعد أن فرضت علينا الإقامة الجبرية، وتحتم التعليمات التي أمليت علينا الامتناع عن إجراء الاتصالات الهاتفية بأي جهة من الجهات وعدم مبارحة منازلنا لأي سبب كان.
اعتقال المستشار والقنصل
وتعاظمت أحزاننا ونحن نشاهد كيف استبيحت البلاد وكيف شرعت العدوانية الأمريكية أبواب العراق أمام القتلة واللصوص وقطاع الطرق، والمصير الذي آل إليه الوطن على يد عصابات الأحزاب الدينية.. وكانت ذروة معاناتنا قيام السلطات الأمنية باعتقال اثنين من أعضاء البعثة هما المستشار والقنصل اللذين اقتيدا من منزليهما، من دون أي سند قانوني، وأرسل كاتب السطور أكثر من عشر مذكرات عبر عميد السلك الدبلوماسي إلى الخارجية غير أن أحدا لم يرد على أي من مذكراتنا.. وتعرض عضوا البعثة خلال فترة سجنهما إلى ضروب الضغط النفسي والتعذيب الجسدي، بعد أن تم إخضاعها إلى تحقيقات يومية مطولة وبقيا رهن الاعتقال قرابة ثلاثة أشهر لم يطلق سراحهما إلا في أواخر يوليو – 2003.
منع السفر
بعد استحصال الموافقة على مغادرة ثلاثة أعضاء من أعضاء البعثة الأراضي الإيرانية، فوجئنا بقرار إدارة الجوازات في مطار مهرباد الدولي، بمنع سفرهم، وأجابني مسؤول الجوازات أن هناك قيداً أمنياً على أسماء منتسبي السفارة، يحظر مغادرتهم أراضي الجمهورية الإسلامية .26 أبريل بعد مرور عشرة أيام أبلغتني الخارجية الإيرانية السماح للسفير وأعضاء البعثة بالدوام في السفارة يوماً واحداً: الثلاثاء من كل أسبوع.
وللحديث بقية ..
المصادر:
راجع نص خطبة السيد علي خامنئي. جريدة كيهان «عربي» عدد 14/4/2003