كتابة - رولاند بنروز: ترجمة - أمين صالح: من “لوحات حلم” (1925) للفنان الإسباني خوان ميرو، فصاعداً، بدأ استغراق جديد بالليل في الظهور والتطور. المكان اللا محدود، المتأصل في الظلام، وجو النوم لقيا توكيداً جديداً في أعماله. الأحلام والهلوسات – التي هي مؤثرات تتعارض مع الوقائع الصعبة للحياة اليومية لكنها تنبثق من النطاق الكائن تحت الوعي- دخلت في لوحاته محمّلة بطراوة الندى. المساحات الخالية الفسيحة التي خلقها، متحررة من أي إشارة إلى الأرض أو الأفق، صارت مأهولة بأشكال تتصل بالأشباح التي تظهر في حالات الوعي الجزئي. عندما أصبح المناخ السياسي يزداد قتامة وكآبة، ولوحاته بدأت تزخر بالرؤى التي تتنبأ بكوارث وشيكة، اكتشف ميرو في التكوينات العظيمة التي حققها في (1933م) الوسيلة لتغليف المتفرج في جو من الليل البدائي. كان يقودنا نحو كهوف فسيحة مأهولة بحيوانات سحرية، شفق فيه تطفو كائنات الظلام وترقص.. ليس على الأرض بل بين النجوم. إن قلقه قد ازداد وبدا محسوساً درامياً في لوحاته التي رسمها في الثلاثينيات، والتي تنتمي إلى المرحلة “المتوحشة” من أعماله، حيث السماوات الكائنة خلف أشكال غريبة لرجال ونساء ومسوخ تصبح معتمة ومبهمة بفعل ظلمة ليل مشؤوم واصطناعي. الظلمة الهائجة، التي كانت تنحدر وتنقضّ، تبلغ أوج هيجانها وعنفها في لوحته “لوحة ساكنة لحذاء قديم” (1937م) التي هي استعارة قوية للحرب الأهلية الإسبانية. رأس امرأة ببلاغة وافرة يستخدم ميرو اللون الأسود في لوحات عديدة مثل “رأس امرأة” (1938م) التي فيها يصور امرأة تعاني من تحولات وحشية وتبدو مثل مسخ أو وحش الليل: سوداء لكنها مزدانة بشعارات متألقة تميّز خاصياتها ورموزها. الليل، بحد ذاته، وفي مظاهره العديدة، ليس شراً أو شؤماً. حتى خلال سنوات ميرو الأكثر يأساً وفجيعة، كان الليل قادراً على إيواء حشد من المخلوقات الزاهية المبتهجة التي تتلألأ تحت ضوء نجمة.. كما في “لوحة ليلية” (1938م). أثناء الأسابيع المأساوية الأولى لغزو القوات النازية لفرنسا، احتفظ ميرو بحالته الغنائية تلك وأنتج سلسلة شاعرية، جميلة جدا، من اللوحات الصغيرة. لوحته “كواكب” هي جوهرياً، عبارة عن قصيدة غنائية موجهة إلى الليل، من الشفق وحتى الفجر، أغنية إلى قاطنيه من الكائنات الليلية، الندى، العندليب، النجوم. بعد سنوات قليلة تحدث ميرو عن تلك الفترة قائلاً : “شعرت برغبة عميقة في الهرب. لقد انعزلت وانطويت على نفسي بشكل متعمد. الليل، الموسيقى، النجوم بدأت تلعب دوراً رئيسياً في خلق الإيحاءات في لوحاتي”. المرأة الأسمى في أغلب هذه الأعمال الرائعة كانت المرأة هي العنصر الأسمى، يحيط بها عشاقها، مخلوقات الظلام، الطيور، النجوم. في اللوحات اللاحقة، مثل “نساء وطائر تحت ضوء القمر” (1944م)، لم يعد الليل محكوما وخاضعا لهيمنة الظلمة الشريرة التي تنشرها الحرب والرعب. لقد استعار من الفجر لون البسالة، والناس صاروا يرقصون من جديد، منتعشين ببرودة الليل. ممتلكاً قوة الساحر، كان ميرو يملأ سماء الليل بالضوء، عارفاً بأن الليل ليس أعمى، وبأننا نستطيع أن نرى في الظلام، وأن الضوء هو الذي يمكن أن يعمينا ويخدعنا. ميرو كان يرى في الليل. ظلامه يفيض باللون، وفضاؤه مطلق ولا نهائي. في لوحة له العام 1953م، يجعل الشمس، السوداء كالليل، تظهر إلى جانب نجمة سوداء. بطريقة بارعة، إبداعية، ينجح في الكشف عن مفهوم مختلف للمكان، والذي يوحّد انقسام الليل والنهار. ميرو ينسب إلى القمر غموضاً أكبر من الشمس. القمر يدفع بالكلب إلى النباح، يطل على امرأة، يجعل البحر يتذبذب، يحوّل لونه أمام الفجر. إنه ملك الليل، يحكم في غموض. تأثيراته تربك، سطوته تقلق، ومسالكه تضل. مع ذلك، فكل الكائنات الأنثوية تطيعه، وفي مملكة الأحلام يكون هو الأسمى. ومن المعروف بأن جميع القطط تكون سوداء في الليل، وهذه المعرفة قد تشجعنا على التفكير بأن ميرو يعشق الليل بسبب مجهوليته. يقول: “علينا أن نتحرك نحو المجهول. نحن ندرك الآن حاجتنا إليه أكثر فأكثر، لكننا في الوقت نفسه نعي حاجتنا إلى إيماءة فردية تماماً، فوضوية تماماً، من وجهة النظر الاجتماعية. لماذا؟ لأن الإيماءة الفردية مجهولة على نحو عميق، وكونها مجهولة تتيح للكوني أن يكون قابلا للبلوغ والإحراز. أنا واثق بأنه كلما كان الشيء أكثر محلية، صار أكثر كونية”. العزلة والكونية بهذه الكلمات يعبّر ميرو عن الاتحاد بين العزلة والكونية، والذي يمكن أن يكون محسوساً في الليل قبل كل شيء. لكن هذا الاستنطاق الوجيز لأعماله ينبغي أن يكون كافياً لإقناعنا بأن الليل، بالنسبة له، لا يغلـّف كل شيء في سديم بلا شكل، ولا لون، وغير مدرَك. على العكس تماماً، هو يعرف على نحو حميمي الخصائص المتنوعة لسكـّان الليل، تألقهم المتفجّر، والعمق الذي يمتص ظلالهم. بين الأشياء الساحرة العديدة التي تكشفها لنا عبقريته، يعرض لنا العيون الألف ووفرة الأعاجيب المخبوءة في المجال الذي لا يقاس للـّيل: تلك الرحلة القصيرة بين ضوء يومين متعاقبين، والتي، مع ذلك، تحتل جزءاً كبيراً جداً من حياتنا. أداة بسيطة السـلـّم، تلك الأداة البسيطة التي تتيح لنا بأن نرتفع عن الأرض، أو نقطف ثمرة، أو نتوارى بين أغصان شجرة ما، قد حققت أول ظهور لها عند ميرو في لوحته “المزرعة” (21-1922). السلـّم في بداية حضوره كان يحمل دلالة واقعية، موضوعية، لكن سرعان ما وهبه ميرو مغزى أرحب وأشمل. في “كرنفال المهرّج” (24-1925م) أخذ السلـّم يقودنا بمنظوره المدرّج نحو أقاليم الفنتازيا حيث المخلوقات الرائعة، التي تأخذ شكل حوريات البحر، تطفو بين درجات السلـّم. في “كلب ينبح في اتجاه القمر” (1926م) يفضي السلـّم إلى سماء خالية، بينما في لوحات أخرى عديدة مثل “نجم يداعب نهد زنجية” (1938م) يصبح مجرد علامة تخطيطية تخترق المجهول. إن شكل السلـّم يوحي بحركة ما، دعوة لاتباع الاتجاه الذي يشير إليه، للصعود وراء التخوم التي تربطنا إلى الأرض، للهرب من العالم المادي نحو ممالك الروح. لقد ثابر ميرو على استخدام هذا الرمز وتوظيفه بسبب قدرته الهائلة على التعبير عن رغبة ميرو الخاصة في تجاوز الحالة الناقصة للحياة اليومية. اتصال حميمي السنوات الأولى من اتصاله الحميمي بالسوريالية قد أقنعته بأن الفن، إن وُجد، يقتضي ضمناً شيئاً أكثر من مجرد الاستمتاع بالجمال. لقد قام بعملية استقصاء لعالم الأحلام وما دون الوعي مدفوعا برغبة جارفة في الاقتراب من “تخوم الإدراك الحسي” على حد تعبير هربرت ريد، على الرغم من المجازفات التي تتضمنها. ميرو لم يعتريه أي شك في أن ما يشكـّل بالنسبة له أهمية حقيقية كان يكمن وراء نطاق اللوحة. إن درجة المتعة البصرية المحضة التي تمنحها اللوحة يمكن أن تكون قوية، لكن من المرجّح أنها كلما أصبحت أكثر حدّة، أثارت توقاً أكبر لفهم المظهر الخارق لحالتنا ووضعنا. العمل الفني إذن، بينما يقودنا إلى تخوم الإدراك الحسي، يصبح الوسيط الذي يقدم مدخلا إلى حالات جديدة من الوعي. ومع أن العمل الفني يظل القوة المحرّكة، إلا أنه، بحد ذاته، يصبح أقل أهمية من الحالة التي يقودنا إليها. في الوقت نفسه يتقهقر الفنان نفسه إلى حالة من المجهولية. يقول ميرو:« المجهولية تتيح لي أن أنكر نفسي، لكن بإنكارها أصل إلى تأكيد ذاتي بشكل أكثر قوة (..) الممارسة ذاتها تجعلني أبحث عن الضجيج المستتر في الصمت، الحركة في الثبات، الحياة في الموت، المطلق في المحدود، الأشكال في المكان، وذاتي في المجهول”.