كتب – جعفر الديري:

يضم المجلد الأربعين من مجلة عالم الفكر، الصادر حديثاً عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، «دراسات جادة تتمحور حول الأسطورة بأبعادها الدينية والسياسية والاجتماعية»، إلى جانب ندوة عن «ثورات الربيع المعاصر»، شارك فيها متخصصون في مجالات مختلفة معنيون بالشأن العام. الدراسات الخاصة بالأسطورة شملت: (نظرة الاثينيين إلى الأسطورة) لـ د. محمد عبدالغني، (الأسطورة والتوظيف الحضاري) لـ د. محمد عبدالفتاح سليمان، (الأسطورة في بلاد الرافدين) لـ د. خالد عبدالملك النوري، (الأسطورة في الفن الحديث) لـ د. مصطفى الرزاز، (أسطورة إينياس في ملحمة الإنيادة) لـ د. ماجدة النويعني، (الأسطورة بين الحقيقة والخيال) لـ د. عبدالمعطي شعراوي، (فكرة الأسطورة وكتابة التاريخ) لـ د. ناصر الدين سعيدوني.

الأسطورة والقوة

نقرأ في مقدمة المجلد «أن الأسطورة التي اشتهر بها اليونانيون القدماء وغيرهم كانت مزيجاً من التصور المفترض للقدرة والقوة في التاريخ مرتبطة بالمعتقدات الدينية حينها والقائمة على القوة الدنيوية وعلى هيمنة الآلهة وقدسيتهم والحكمة والتفكير والإبداع ولا شك في إن الأسطورة مجال من مجالات الفكر كانت لها إيجابيات في المجتمعات القديمة حيث لعبت دوراً مهماً فكرياً وحضارياً. وعندما كان القدماء يبحثون عن مصادر في تاريخهم أو التفكير في مصادر تلك القوة في واقعهم ومستقبلهم يلجؤون إلى الأسطورة، كمنبع لمصادر تلك القوة الدينية والدنيوية وقد مارست الأسطورة دوراً مهماً في تاريخ الشعوب وتبدو فكرة البطولة والاتحاد والقوة والتطور الحضاري قد استلهمت مقوماتها من الأسطورة.

تطور الكلمة

من جانبه، يوضح د. محمد السيد محمد عبدالغني، في مقالته حول نظرة الأثينيين إلى الأسطورة؛ أن الكلمة اليونانية الدالة على «الأسطورة» في التراث اليوناني القديم، مرت بتطورات -من حيث دلالاتها- حتى وصلت إلى معنى «الأسطورة». فهي في الشعر الملحمي المبكر عند هوميروس تعني ببساطة «القول» و»الحديث» و»التصريح»، كما اتضح من عدة مواضع وسياقات في «الإلياذة» وردت فيها هذه الكلمة في صيغة الفعل، مشيراً إلى أن التراث الأدبي اليوناني المبكر كان مكتوباً بالشعر، وبدأ استعمال النثر في الكتابة الأدبية منذ حوالي منتصف القرن السادس ق.م.

وحول نظرة الإغريق إلى القصص الأسطوري الوارد في ثنايا الملاحم المبكرة، يوضح انه لم يكن لديهم -في فترة مبكرة- تمييز واضح ودقيق بين الأسطورة والتاريخ، بل كانوا يفاضلون بين روايات تبدو أكثر مصداقية وأخرى أقل مصداقية أو زائفة، غير أن واحداً من الرواد الأوائل للأساطير اليونانية، وهو الشاعر الملحمي هيسيود -من القرن السابع ق.م ومؤلف الملحمة الأسطورية «أنساب الآلهة»- ربما يكون هو أول من ألقى بذرة الشك في مصداقية الأساطير حين يلمح في أحد أبيات ملحمته هذه إلى أن ربات الوحي والفنون قد تصدر عنهن وفي بعض المناسبات أكاذيب مقبولة، لافتاً إلى أن هذه الشهادة حيت تصدر عن هيسيود أكبر المتحمسين للعقيدة والأساطير الإغريقية» تكون لها دلالتها الموحيةّ!

درجات متفاوتة

ويبين د. عبدالغني ان الأساطير كانت ذات درجات متفاوتة من المصداقية، فهناك أساطير الآلهة المغرقة في الخيال «وإن كانت ذات دلالات رمزية»، وأخرى ذات علاقة بالأبطال من البشر، وحروبهم مثل الحروب الطروادية وأبطالها أجاممنون وأخيليوس وأوديسيوس الذين تختلط في أعمالهم الحقائق بالأساطير، لافتاً إلى أن النوع الأخير من الأساطير يكتسب بعض المصداقية، ويحظى ببعد تاريخي ما، وكان هذا النوع من الروايات يمثل بالنسبة إليهم منظوراً شبه تاريخي.

الأسطورة والتاريخ

قام الإغريق في العصور المبكرة -بحسب الباحث الدكتور- بعمل مواءمة بين الأسطورة والتاريخ لا توحي بوجود تعارض أو تناقض بينهما. ولكن في القرن السادس ق.م. تغيرت الأمور بعض الشيء نتيجة الاتجاه نحو العقلانية، الذي تمثل في ظهور الفكر الفلسفي والعلمي على ساحل أيونية غرب آسيا الصغرى -الفلاسفة قبل سقراط- وبداية ظهور الكتابات اليونانية ذات السمة الجغرافية والإثنية والعرقية» والتاريخية»، مبيناً أن هذا التوجه العقلاني من جانب علماء وفلاسفة الإغريق، في تلك الفترة، جعلهم يخضعون موروثهم الفكري للنقد والتحليل العقلاني، حتى لا يظل الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الخرافات والأعاجيب. فها هو كسينوفانيس الكولوفوني يشن هجوماً لاذعاً على هوميروس وهيسيودوس اللذين صاغا مفاهيم الإغريق حول الآلهة والعقيدة اليونانية، وينكر عليهما تلك النظرة المبتذلة حول الدين بآلهته التي تسرق وتزني وتخدع. ويرى أن هذه الأفكار والتصورات عن الآلهة هي من صنع خيال البشر الذين تصورا آلهة على شاكلتهم، يخلقون ويولدون ولهم السمات الجسمانية والعقلية نفسها.

مولد الآلهة

يذكر د. عبدالغني أن هذه الأفكار يأباها كسينوفانيس وينكرها ويعتبر القول بمولد الآلهة مقولة آثمة، كالقول بموت الآلهة حسبما أورد أرسطو. كاتب آخر من القرن السادس ق.م. هو ثياجنيس. من ريجيون جنوب إيطاليا. له رأي مختلف عن الرأي السائد آنذاك حول أساطير الآلهة الواردة عند هوميروس، فهو يرى أن آراء وأوصاف هوميروس في ملاحمه (الإلياذة والأوديسة) لم تكن حرفية، بل كانت رمزية مجازية. وهذا الموقف من جانب ثياجنيس أشار إليه أحد الشراح القدماء لملاحم هوميروس، وهو يفسر المعارك بين الآلهة في الإلياذة. فهو يرى أن هوميروس قد رسم وصوّر معارك وأطلق على النار أسماء «أبوللون» ، و»هيليوس» و»هيفايستوس» وعلى الماء «بوسيدون»، وعلى القمر «أرتميس»، وعلى الهواء «هيرا». كما أطلق أسماء آلهة على بعض النزعات والميول والصفات فأطلق على الحكمة والبصيرة «أثينة»، وعلى التهور والحماقة «آريس»، وعلى الرغبة «أفروديتي»، وعلى الصواب والرشد «هيرميس». ويقول هذا الشارح إن «مثل هذا الدفاع عن هوميروس هو دفاع قديم جداً يعود إلى ثياجنيس من ريجيون». هكذا نرى نوعاً من التفسير الرمزي لأسماء الآلهة عند هوميروس يربطها بظواهر وسنن الطبيعة، وهو ما استفاد منه أمبيدوكليس في منتصف القرن الخامس ق.م.

الاتجاه العقلاني

ويلفت الباحث إلى أن الاتجاه العقلاني نحو الأسطورة ترك بصمته على الصفوة المثقفة من رجال الفكر في المجتمع اليوناني القديم. فقد أدى عند البعض إلى تدين أعمق من تدين العوام، مثلما ظهر في الحركة الأورفية وطقوسها السرية. كما أدى إلى رواية أكثر أخلاقية للقصص والأساطير، كما هي الحال عند الشاعر بنداروس الطيبي. ومن آثاره كذلك أنه بدأ يلقي بظلاله وانعكاساته على الكتابة التاريخية التي «بدأت» في أواخر القرن السادس وبدايات الخامس ق.م. في التخلي عن مفهومها التقليدي الذي يعج بالروايات والأساطير القديمة وتتسلح عن هذا المفهوم رويداً رويداً، وتنتقي أكثر الروايات مصداقية، وتحاول إضفاء تفسير عقلاني على بعض الجوانب غير المنطقية. ويتابع: لعل هذا أول ما ينجلي واضحاً عند هيكاتيوس الميليتي صاحب العبارة الشهيرة «أنني أكتب ما أراه صحيحاً، إذا إن روايات الإغريق -كما تبدو لي- كثيرة ومتعددة وتبعث على الضحك والسخرية. ورغم ريادة هيكاتيوس الميليتي -بين المؤرخين الإغريق القدماء- في العقلانية والنظرة النقدية الفاحصة الانتقائية -كما تبين من عبارته أعلاه- فإن ما تبقى من شذرات مؤلفة «الأنساب» يبين أنه لم يتخلص من تأثير وسيطرة الأساطير على كتابته التاريخية، برغم أنه ترك بصمة لا تنكر في محاولة تفسير أو إضافة أو تعديل بعض الأساطير القديمة. وقد فتح هذا المجال أمام مؤرخي القرن الخامس ق.م. – وأبرزهم هيردوت وثوكيديديس، وفق الترتيب الزمني – للتقليل المطرد من جرعة الأساطير في الكتابة التاريخية واتخاذ موقف نقدي منها.

اتجاه محافظ

يشير د. عبدالغني إلى وجود فريق آخر من الكتاب تبني اتجاهاً آخر محافظاً أبقى على الأساطير القديمة، وإن أدخل عليها بعض الإضافات أو التعديلات أو الأبعاد المحلية أو حاول تأريخ الأساطير. ولعل من أبرز رموز هذا الاتجاه أكوسيلاوس من أرجوس، وفيركيديس الأثيني، وهيلانيكوس من ليسبوس، من أوائل القرن الخامس ق.م. (النصف الأول من القرن الخامس).