كتب - علي الشرقاوي:
قبل أن نعرف شيئاً من حياة الذين اشتهروا، في أي مجال من مجالات الحياة، الفكر، الثقافة، الأدب، الفن، العمل السياسي والاقتصادي والخيري والدعوي، علينا أن نعرف أيضا الأشخاص الذين غرسوا كلمة أو فعل أو موقف في حياة المشهورين، ليس في الحورة فقط، إنما في البحرين وبقية مدن وقرى العالم. وإذا كنا قد تحدثنا قبل فترة عن دكان السيد ودوره في المناظرات الشعرية التي جعلت مجموعة من الشباب يحفظون القصائد عن ظهر قلب، ويرددونها في وهم يسيرون من مكان إلى آخر ، من أجل المشاركة في هذه الفعاليات العفوية التي تحدث على كراسي دكان السيد، بدون أي ترتيب أو إشعار، فان دكان أحمد بن ريحان، المطل بالكتويل “ طاحونة هواء صغيرة تعلق في أسطح المنازل من أجل التعرف على حركة الهواء “ على شارع أبو ذر الغفاري، هو الأخر كانت له مساهمات في تعريفنا على الشعر العامي، الزهيريات ، والأبوذيات، والشكل النبطي والقصائد الكلاسيكية العامية.
صناديق بن ريحان
على كراسي أو بالأحرى صناديق بن ريحان كنا نلتقي مجموعة من الصبيان، حالمين بأن يكون لكل واحد منا دوراً ما في المجتمع الذي ننتمي إليه، عبداللطيف راشد الغني وعبدالحميد القائد ويعقوب المحرقي وعبدالله حيدر ويوسف محمد بو شقر وأنا، وبعض الأسماء التي غابت الآن عن الذاكرة، كنا ممتلئين بقراءة الشعر وحفظه، ولأنني كنت أحب الشعر العامي، كنت أحفظ في تلك الفترة العديد من الزهيريات والأبوذيات منها على سبيل المثال : “لفى طارش حبيبي كم هليت.. جواجب من دموع العين هليت.. ليتك يا شهر الفراق ما كنت هليت.. شبه عاشور كل يوم بأذية”. وكذلك: “مريت على داركم وانته مقصودي.. والآه في نصختي كالنار في العود.. وبن آدم لو ينعبد جان معبودي”. وغيرها من القصائد العامية التي أحرقها الوقت، وضاعت في طرق الأيام والانتقالات بين أكثر من بيت وأكثر من زمن.
وإذا كنا نلتقي عند دكان بن ريحان، ونحن طلاب في المدرسة الثانوية بالمنامة، بمجموعة من الموظفين، أحمد العسومي الموظف في بلدية المنامة وعبداللطيف راشد الذي كان موظفاً في البنك العربي، ومعه عبدالله علي الملا، والمدرسين عبدالرحمن الحاوي ومحمد جبارة وغيرهم، فإننا أيضاً كنا نلتقي بمجموعة من العمال البسطاء، ومن هؤلاء ابن الحورة سعد بو جندل. هذا الإنسان الذي علمنا الكثير بصورة عفوية. فالأطفال كما يعرف الجميع، يمتصون المعلومات التي يحصلون عليها كالإسفنجة تماماً، دون تمحيص، فهم لا يملكون القدرة على التحليل كما يفعل الأكبر سناً. سعد عبدالله بو جندل، كان واحداً من الذين يحفظون بعض القصائد لياسين الحسيني ومحمد بن حبتور ومحمد البلدان وغيرهم من الشعراء العاميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وغير المعروفين إلا للمجموعة القريبة منهم التي تحيط بهم.
زيارة بن حبتور
قلنا لسعد بو جندل الذي يعرف محمد بن حبتور أن يحدد لنا موعداً لزيارته، للتعرف عليه والاستفادة من تجربته الشعرية والحياتية، فتم اللقاء به بعد عدة أسابيع ولكن قبل الدخول إلى بيت محمد بن حبتور، علينا الحديث عن الشارع المهم الذي يقع عليه هذا البيت وهو شارع الزبارة.
شارع الزبارة .. شارع ديلي
قبل أن يطلق عليه شارع الزبارة كان يسمى شارع ديلي، وديلي، هو كلايف كيركباترك ديلي، الضابط في الجيش البريطاني الذي عمل في العراق لمدة سنتين، وبتاريخ 21 يناير 1921م عيّن في منصب المعتمد البريطاني في البحرين. ويقال والعهدة على الباحث في التاريخ علي بوشهري، إن ديلي المعتمد الوحيد الذي نقل من الجيش إلى هذا المنصب السياسي من غير أن يكون موظفاً سياسياً مثل غيره من المعتمدين السابقين واللاحقين له. استمر في منصبه هذا حتى سبتمبر من العام 1929م. وبخلاف فترة قصيرة، كما يقول علي بو شهري، تقدّر بستة أشهر قضاها في إجازة، يمكننا أن نذكر بأنه ظل في منصبه هذا لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر. ويعُد ديلي من أشهر المندوبين البريطانيين في البحرين، ففي عهده وقعت حوادث معروفة ومهمة مثل حادثة العجم والنجديين، وإرغام حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي على التخلي عن الحكم الفعلي وتعيين ابنه وولي عهده الشيخ حمد بن عيسى في منصب نائب الحاكم، وقد نال ديلي سمعة لم يحصل عليها أي معتمد بريطاني آخر، فقد سُجّل في تاريخ البحرين على انه أبغض معتمد بريطاني. وبعد أن عزل من منصبه لم يُعيّن في أي منصب سياسي أو عسكري آخر. وفي نهاية حياته كان يعمل في أحد المصارف في مدينة لندن البريطانية، وتوفى قبل حوالي 30 عاماً. كان شارع ديلي، شارع الزبارة الآن، كما يعرفه من سار عليه، يمتد من مقصب الحورة شرقاً إلى سينما النصر غرباً، متقاطعاً مع أكثر من شارع، شارع القصر وشارع الشيخ عيسى “يسمى سابقاً شارع بلجريف” أعني إشارة المرور القريبة من فندق الشرق الأوسط حالياً. إذا سرنا من المقصب إلى جهة سينما أوال والبحرين أو بن هجرس، سيكون أمامنا من جهة اليمين حوطة الحمير، ومن اليسار أرض الشيخ مصطفى عبداللطيف أو العدامة.
والتي كانت ممتلئة ببيوت السعف، حيث لم تترك الحرائق مساحة من هذه البيوت إلا وأحرقتها. ولو توجهنا إلى الغرب، من اليمين أيضاً سنشاهد قهوة البلوش وبعدها بيت الكويتي والذي تحول فيما بعد إلى نادي الفجر في أواخر الخمسينيات ، ثم انتهى به الأمر إلى أن يتحول إلى تراب. بعد عبور شارع القصر، نلتقي جهة اليسار بمأتم ترك، الذي سمى بعدها بمأتم خدارسون، أو مأتم الميناوية.
مأتم عبدالله ترك
تأسست حسينية عبدالله ترك في سنة 1928م وليدة فكرة بعض شباب منطقة المنامة، حيث أن الحاج عبدالله ترك “رحمه الله” تبنى هذه الفكرة وقام بتوفير جميع المستلزمات لهذه المهمة على نفقته الخاصة. وظلت هذه الحسينية في موقعها خلف إدارة المناهج بشارع القصر القديم عدة سنوات، حتى تعرضت لحريق وأتت النيران على المنزل والحسينية، مما اضطر الحاج عبدالله لاستئجار منزل آخر لنقل الحسينية هناك، وكان الموقع لا يبعد عن الموقع السابق إلا بمسافة بسيطة. كما تكرر الانتقال إلى عدة أماكن في المنطقة نفسها حتى قام المغفور له بإذن الله الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين آنذاك مشكوراً بمنح قطعة أرض لبناء الحسينية، وهو مكان وجود الحسينية الحالي، فتم بناء حسينية صغيرة على الأرض الممنوحة حسب الإمكانات المتوفرة. وعلى فترات متفاوتة تمت توسعته حتى تم إزالة المبنى بأكمله العام 1997، وتم تجديد وتوسعة الحسينية لاستيعاب أهالي المنطقة من الرجال والنساء.
بيت بن حبتور
يقع بيت محمد بن حبتور قريباً من مأتم خدارسون. كان البيت واحداً من بيوت العمال “ اللينات “ والتي بناها حاكم البحرين الأسبق الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، بعد حريق القضيبية الشهير، فقد بنيت عدة مناطق منها شرق القضيبية، وعلى شارع الزبارة، شرق مقبرة اليهود، وبيوت العمال في المحرق، إضافة إلى البيوت القريبة من حوطة أبل، التي أطلق عليها مستشار حكومة تشارلز بلجريف “السليمانية “ تكريماً للشيخ سلمان لما قام به من تقديم خدمة جليلة لأهالي المنطقة. ربما حصل محمد بن حبتور على هذا البيت المبني من الطابوق بعد الحرائق العديدة التي حصلت لبيوت السعف في القضيبية، وحصوله عليه جاء لكونه أحد المتضررين من هذه الحرائق.
شكوى بن حبتور
الحديث مع زارع الطيب محمد بن حبتور حديث يجر الجميع للعودة إلى ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الماضي، حيث الأسفار التي لا تتوقف، سواء في البحر “ الغوص” أو البر “القنص”، وقد ذكر لنا في هذه السهرة الجميلة كثيراً من الحكايات التي عاشها في القنص مع الشيخ رزق. بن حبتور تزوج في سن متأخرة نسبياً، ولأنه لا يعرف القراءة والكتابة، فقد فتح المجال أمام ابنته لتحفظ قصائده وتكتبها له بخط يدها، وقد قرأت لنا بعض قصائد والدها. بن حبتور في هذه السهرة العفوية تحدث بألم عن بعض المطربين الذين لم يعطوه حقه المادي وبعضهم لم يذكر اسمه، وقال لو أنهم “ أخذوا حقي المادي وذكروا اسمي لكان هذا يكفي. لكنهم حرموني من الاثنين”. ونحن في هذه السهرة شعرنا بحلم كاتب الكلمة بالتقدير والاحترام، خصوصاً إذا صارت هذه الكلمة تجري على ألسن وقلوب أهل الدار، وتشكّل لهم وجدانهم كقصيدة زرعت الطيب. يقول محمد بن حبتور “زرعت الطيب في بعض الأراضي.. وما ظنيت في هالزرع باخسر.. وزرع اللي زرعته ما نفعني.. أنا اللي أسقيه وعماله يصغر”
المنحوس يبقى منحوساً
بعد عدة سنوات، ربما في العام 1976م ، التقيت بالكاتب أحمد الحجيري، تحدثت وإياه عن أهمية اللقاءات مع كبار السن من أدباء وشعراء وكتّاب، وذكرت منهم محمد بن حبتور الذي بقى اسمه محفوراً في ذاكرتي منذ أواخر الستينيات. قال الحجيري إنه أجرى لقاءً مطولاً معه، حينما كان يعمل حارساً في مدرسة النعيم الابتدائية، وكان الحديث مشوقاً، لكن بعد أن أراد نقل الشريط من صوت إلى نص، وجد أنه لم يسجل أي شيء، فكتب ما تذكره من اللقاء ونشره في صفحة واحدة من مجلة هنا البحرين. وعرفت بعد عدة سنوات انه أعطى قصائده لأحد المسؤولين في وزارة الإعلام لنشرها في ديوان خاص به ، إلا أن القصائد ضاعت هي الأخرى. شخصياً أشعر إن السنوات المقبلة ستخرج لنا بقصائد هذا الشاعر الذي غادر العالم بعيداً عن نشر أحلامه. كل من قال أو حلم بهذه الأرض، على هذه الأرض أن تكرمه كما كرمها وتعيد إليه حقه في النشر والتواصل مع الأحياء عبر الكلمات التي لم تعرف غير المحبة.
مجيد مرهون لا ينسى
دائم الحديث عن هذه المنطقة، منطقة بيت محمد بن حبتور ومدرسة القضيبية و مأتم الميناوية. هذا الحديث لتذكر مجيد مرهون. الفنان الذي اشتغل على أعمال سيمفونية، حاولت التعبير عن إنسان البحرين ومعاناته في البحر والجبل.
كنت أعرف والده حميد مرهون، صاحب دكان الكباب البحريني، الملاصق لبيت البهرة في فريج الفاضل والمقابل لبيت سالم العريض، والذي يطل على بوابة مدرسة عائشة أم المؤمنين للبنات. وأعرف أخاه علي والذي كان طالبا معي في المدرسة الثانوية. وأخاه الآخر الذي ضاع اسمه عن بالي. وكان مجيد واحد من الذين فتنهم الفن وبالذات على آلة السكسيفون. وعن علاقته بالفن، تحدث الفنان الراحل لجريدة الوقت عن علاقته به، فوالدته هي زعفرانة إسماعيل من الحفظة لفنون النوبان ومحبة للفنون الشعبية، وجده لأمه هو إسماعيل مبارك السعدي، محب كذلك للفنون الشعبية، وكان يعزف على آلة نفخ تسمى (سازنغاره)، وقد تولع مجيد منذ صغره بهذه الآلة التي كانت تستهويه الألحان الجميلة التي يعزفها (جده) كل يوم، وفي المقابل كان هناك حي (التلغراف)، وهو حي معروف يقع بالقرب من قصر القضيبية، تجتمع فيه الفرق الموسيقية الشعبية المختلفة، من هنود وباكستانيين وعمانيين ويمنيين وعدد من الفرق الشعبية البحرينية، وكان يعد هذا الحي بمثابة مقر وتجمع للفنون الشعبية المختلفة التي تصدح في كل ليلة، وهي تحيي المناسبات بفنونها المختلفة، فكان يذهب لهذا الحي ويتابع هذه الفرق وهي تقدم فنونها المختلفة، إضافة إلى ذلك وجود المذياع في منزلهم، والذي كان يستمع منه إلى الأغاني المختلفة والسيمفونيات العالمية، ويحاول بشتى الطرق أن يستوقف نفسه أمام كل عمل؛ ليستوعب كيفية اندماج هذه الآلات مع بعضها البعض وخروج هذه الألحان المختلفة، فأثر هذا الجو الفني المحيط به كثيراً وانعكس على تكوينه الموسيقي، وساهم في فتح مدارك الحب والارتباط بالموسيقى، وبدأ ذلك جلياً عندما بدأ في صياغة أول لحن له وهو لم يتعدَّ العاشرة من عمره، عندما طلب منه مدرس التربية الرياضية بمدرسة القضيبية في ذلك الوقت سلمان الدلال عمل (منولوج) بسيط بعدما وجد في هذا الطفل الموهوبة بوادر الإبداع.
«الدقاقة» يظهرون في الحورة
تقريباً في منتصف الستيينات، بدأت ظاهرة غريبة تدخل منطقة الحورة، ظاهرة سرقة الدكاكين الصغيرة التي لا يبيع صاحبها أكثر من دينارين. هذه المجموعة من اللصوص أطلقوا عليها “الدقاقة “.. من أين أتى هذا الاسم؟ لا أعرف، لأن الكلمة تعني أنهم يدقون على البيوت للقيام بعملية السرقة، لكن هؤلاء اللصوص كانوا يسرقون بصمت وبكسر القفل بالعتلة، وبشكل دعابة، تدعو للضحك، فهم ولأنهم لا يحصلون على المبالغ التي يحلمون بها، قاموا بوضع الخردة، من فئة الخمسة والعشرة فلوس، التي وجدوها في درج دكان علي البلوشي على شكل قطار يمتد من أسفل الطاولة إلى عتبة الباب من داخل الدكان ، ثم يغلقون الباب. أما في دكان على أكبر، الملاصق لبيتنا، فلأنهم لم يحصلوا على الخردة الصغيرة، قاموا بشرب مجموعة من علب “الأورنج جوش” و«الطماطة جوش”، ثم وضعوا الفارغة على بعضها الأخر، كما في لعبة “السيليلانكو” التي كنا نلعبها حينما كنا أصغر سناً. “الدقاقة” لم يستطيعوا المواصلة، لأن شباب الحورة بعد سماعهم لمثل هذه السرقات الليلية، قاموا بتشكيل فرق لإيقاف هذه الظاهرة الغريبة عن أهل الفريج، فبدأت كل مجموعة مكونة من خمسة أو ستة أشخاص تدور في الفريج، من أقصاه إلى أقصاه، حتى انتهت هذا الظاهرة بصورة كاملة.