النية الخالصة
من التأهب لرمضان وحسن الاستعداد له: أن تعقد العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات، وعلى بذل المجهود واستفراغ كل الوسع في استغلال كل لحظة فيه في رضا الله سبحانه .
وهذا العزم ضروري فإن العبد لا يدري متى توافيه منيته ولا متى يأتيه أجله ؟ فإذا انخرم عمره وسبق إليه من الله أمره، وعادت الروح إلى باريها قامت نيته مقام عمله فيجازيه الله على حسن نيته وعلى هذا العزم فينال الأجر وإن لم يعمل. عن ابن عباس رضي الله عنهما: [ إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعلمها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ... ] الحديث متفق عليه، وقال [ إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ] متفق عليه. ونحن نعرف أناساً كانوا معنا في رمضان الماضي وليسوا معنا في عامنا هذا وكم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر
فكم من مستقبل يومًا لا يستكمله ؟ ومؤمل غداً لا يدركه ؟ إنكم لو أبصرتم الأجل وميسره لأبغضتم الأمل وغروره.
التوبة الصادقة
وهي واجبة في كل وقت ومن كل ذنب، ولكنها في هذا الحين ألزم وأوجب لأنك مقبل على موسم طاعة، وصاحب المعصية لا يوفق للطاعة ولا يؤهل للقرب، فإن شؤم الذنوب يورث الحرمان ويعقب الخذلان، وإن قيد الذنوب يمنع عن المشي إلى طاعة الرحمن، وإن ثقل الذنوب يمنع الخفة للخيرات والمسارعة في الطاعات فتجد القلب في ظلمة وقسوة وبُعد عن الله وجفوة، فكيف يوفق مثل هذا للطاعة؟ أو كيف يصلح للخدمة؟ أو كيف يدعى للمناجاة وهو متلطخ بالأقذار والنجاسات ؟ فصاحب المعاصي المصر عليها لا يوفق إلى الطاعة فإن اتفق فبكد لا حلاوة فيه ولا لذة ولا صفوة ولا أنس ولا بهجة، وإنما بمعاناة وشدة، كل هذا بسبب شؤم الذنوب .
وقد صدق الأول حين قال: حرمت قيام الليل سنة بذنبٍ عملته . وعندما قيل للحسن لا نستطيع قيام الليل، قال قيدتك خطاياكم. وقال الفضيل: “إذا كنت لا تستطيع قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محبوس قد قيدتك ذنوبك”.
فلابد من التوبة النصوح المستلزمة لشروطها، المصحوبة برد الحقوق إلى أهلها، والمصاحبة للافتقار وإظهار الفاقة والحاجة إلى العزيز الغفار، ولابد من إظهار الرغبة بحسن الدعاء ودوام الاستغفار وكثرة الإلحاح والتضرع إلى الله بالقبول وأن يجعلك ممن تقبل توبتهم قبل رمضان وأن يكتبك في آخره في ديوان العتقاء من النار. وعلامة الصدق كثرة الإلحاح ودوام الطلب وكثرة الاستغفار، فارفع يديك إليه وناجه وتوسل إليه.
معرفة شرف الزمان
فالوقت هو الحياة، وهو رأس مالك الذي تتاجر فيه مع الله، وتطلب به السعادة وكل جزء يفوت من هذا الوقت خالياً من العمل الصالح يفوت على العبد من السعادة بقدره.
قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف وقيمة وقته فلا يضيع فيه لحظة في غير قربة .
ورمضان من أنفس لحظات العمر، ومما يجعل الإنسان لا يفرط في لحظة منه أن يتذكر وصف الله له بأنه “أياماً معدودات” وهي إشارة إلى أنها قليلة وأنها سرعان ما تنتهي، وهكذا الأيام الغالية والمواسم الفاضلة سريعة الرحيل، وإنما يفوز فيه من كان مستعدًا له مستيقظاً إليه.
فإذا أدرك الإنسان قصر وقت رمضان علم أن مشقة الطاعة سرعان ما تذهب وسيبقى الأجر وتوابعه من انشراح القلب وانفساح الصدر وفرحة العبد بطاعة الرب سبحانه .
وكم من مشقة في طاعة مرت على الإنسان فذهب نصبها وتعبها وبقى أجرها عند الله إن شاء الله. وكم من ساعات لهوٍ ولعبٍ وغفلةٍ ذهبت وانقضت لذتها وبقيت تبعتها.
تعويد النفس
(أ) الصيام: وقد كان النبي يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً. وكان هذا ضروريًا لتعويد النفس على الصيام حتى إذا جاء رمضان كانت مستعدة بلا كلفة ولا تعب يمنعه عن العمل ويحرمه من كثرة التعبد.
(ب) القيام: وهي سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكنا يا للأسف ما دخلناها ولا رأيناها. مدرسة تربى فيها النفوس، وتزكى فيها القلوب، وتهذب فيها الأخلاق. عمل شاق، وجهاد عظيم لا يستطيعه إلا الأبطال من الرجال، والقانتات من النساء، الصابرين والصادقين ... بالأسحار . هو وصية النبي لنا وعمل الصالحين قبلنا: [عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد] رواه الترمذي.
إن تعويد النفس على قيام الليل ضروري قبل رمضان وبعد رمضان وهو إن كان لازمًا لكل الناس فهو للدعاة والأئمة ألزم، ففيه من الأسرار ما تنفتح له مغاليق القلوب وتنكسر أمامه أقفالها، فتنزل الرحمات والبركات ويفتح على الإنسان من أبواب الفهم والفتوح ما لا يعلمه إلا الله، ومن تخرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال بعده إلى ما شاء الله، والمتخلف عن مدرسة الليل تفسو قلوب الناظرين إليه .
(ج) كثرة التلاوة: شهر رمضان شهر القرآن، فللقرآن في رمضان مزية خاصة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع سيدنا جبريل في رمضان كما في حديث ابن عباس وذلك كل ليلة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في قيامه جدًا كما في حديث حذيفة.
المسابقة والجدية
وهي أصل في العبادة كما في كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) وقال سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21) وفي الحديث: سبق المفردون سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله! قال “الذاكرون الله كثيراً، والذاكرات”.
وقد كان كل واحد من الأولين يعتبر نفسه المخاطب بهذا الأمر دون غيره فكانوا يتسابقون في الطاعة يدلك على هذا ما أثر عنهم من قولهم: “لو أن رجلا بالمشرق سمع أن رجلا بالمغرب أحب إلى الله منه فانصدع قلبه فمات كمدا لم يكن عجبا” .
وقالت جارية لعمرو بن دينار: رأيت في المنام كأن منادياً ينادي: الرحيل .. الرحيل، فما رحل إلا محمد بن واسع !! فبكى عمرو حتى وقع مغشياً عليه.
واعلم أيها الأخ الحبيب أن الأمر جد لا هزل فيه (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذريات:23).