كتابة - رولاند بنروز: ترجمة - أمين صالح: فنانون مثل خوان ميرو، اكتشفوا عبر التناقض الظاهري بأن البيان المحدود لأعمالهم يمكن أن يكون مدخلاً إلى فهم جديد للمطلق أكثر منه نهاية بحد ذاته، هؤلاء يقبلون القيام بدور العرّاف أو الرائي. إنهم يصبحون الوسطاء الذين، غريزياً في المقام الأول ثم بسيطرتهم على الأدوات والتقنيات، يستطيعون نقلنا معهم نحو فهم أكثر كمالاً لعلاقتنا الإنسانية بالمجهول العظيم، نحو ائتلاف بيننا وبين طبيعة الأشياء. والفلسفة الهندية تخبرنا أن «ذلك الذي يفهم، لديه أجنحة». فكرة الطيران كرمز للانعتاق والتحرر هي واسعة الانتشار. إنها تغرينا لاكتشاف التشابه بين المناخ الذي يخلقه ميرو والطقوس الشامانية (الديانة البدائية التي تتميّز بالاعتقاد بوجود عالم محجوب، هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح الأسلاف) والتي فيها يقدر الماهر على زيارة الفردوس السماوي ويصف لأتباعه بالتفصيل كل ما يراه وكل ما يحدث. إن أهمية هذا تكمن في الإدراك الفطري بأنه ليس من الضروري للرائي أن يرى ما وراء تخومنا غير المألوفة، ويجدّد اتصال أتباعه بالغامض والخارق فحسب، بل أيضاً أن يشحذ وسيلته لتحقيق ذلك. إن وسيلته للولوج في حالة من الوجد ستتضمن حتماً رموزاً واستعارات. الكاهن الشاماني يستعير أجنحة الخيال، يرتفع عن الأرض بواسطة شجرة أو نبتة متسلقة أو، كما في سيبيريا، يتسلق سارية في منتصف الخيمة ويخرج من خلال شق في الدخان. الرغبة في التحرر هذا التوق ينشأ، أينما يوجد، من الرغبة الملحّة في التحرر من قيود العالم المادي. الوسيلة الكونية لتحقيق هذا التخطي تكمن في استخدام رموز ناتجة عن حالة الغيبوبة. كونية الرموز تقتضي ضمناً انتسابها إلى اللاوعي الجمعي.. إنها نتاج حالة من الغيبوبة والتي تماثل الحالة الفردوسية التي بلغها الشامان عبر طقوسه. نحن ندرك إيمان ميرو بضرورة التحوّل.. هذه الفكرة التي تحكم كذلك كتابات أنتونان أرتو، الذي يتذكره ميرو كواحد من أكثر التأثيرات أهمية أثناء صداقته المبكرة مع السورياليين. إن كتابات أرتو السحرية كانت مقبولة لدى ميرو إلى درجة أنها مارست تأثيراً عميقاً على خياله. الأفكار التي ولـّدتها تلك الكتابات نجدها تستمر في الظهور عند ميرو بعد سنوات، كما -على سبيل المثال- في عمله النحتي بالسيراميك «امرأة وطائر» (1962) حيث التمثيل الرمزي الجريء والواضح للفعل الجنسي. إنه ليس توضيحاً حرفياً للأحجار السوداء التي ذكرها أرتو، بل أن مغزاه ودلالته في كونه إشارة للمفهوم الأرواحي عن العالم الذي تقاسمه ميرو مع صديقه، بمعنى أن لكل ما في الكون، وحتى للكون ذاته، روحاً. يقول ميرو: «إنها روح الحجر تلك التي تنبض، أما الحجر نفسه فلا قيمة له». معجب بمالارميه كان ميرو يعبّر كثيراً عن إعجابه الشديد بشعر مالارميه. في إحدى قصائده، يبعثر مالارميه أبياتاً وكلمات فوق الصفحة، واضعاً في اعتباره الأهمية البصرية للمساحات البيضاء في ما بينها. مثل مالارميه، كان ميرو يعرف بأننا نرى الأبعد حين نرى الأشياء كما لو من خلال حجاب لا يمكن رفعه تماماً، والذي بواسطته تتغذى المخيّلة وتنشط. في المستوى الشعري، نحن نرى ونفسر لكن لا يجب أبداً أن نخرّب ما قد رأيناه وشعرنا به بالكلام عنه كثيراً. ثمة إقليم يقع في المنتصف بين تحلـل الهيولية وعقم النظام المعصوم، والذي فيه توجد الحياة. عند هذا المستوى المتقلقل، يفتح ميرو أعيننا ويقدّم مدخلاً إلى أقاليم جديدة. إنه لا يقترح علينا بأن نكافح للوصول إلى الجحيم أو الجنة، بل بالأحرى لبلوغ فهم أكثر صدقاً لتواجدهما وتعايشهما معاً، وعلاقتنا الخاصة بالطرفين معاً. الإنسان ليس خارقاً إن ميرو يُظهر لنا بأن ليس الأسمى الذي يقود إلى الخارق، فحقيقة الأشياء المادية يمكن أن توفر نقطة الانطلاق لرحلة هروبنا.. الرحلة التي هي جوهرياً خلاقة وفعالة كتجربة، لأنها روحياً ومادياً الرمز الأساسي للحياة. فتطور ميرو من فنان مرتبط تماماً بأصول قروية، يسعى إلى تصوير الطبيعة بواقعية مبتذلة تقريباً، إلى راءٍ يتوق إلى الهرب نحو الخارق، يوحي هذا التطور-بشكل متناقض ظاهرياً- بأن هناك تماثلاً بينه وبين موندريان، الذي أظهر له في البداية احتقاراً شديداً. يقول عن موندريان: «أكنّ لموندريان احتراماً عميقاً، رغم أننا في طرفي النقيض، لأنه يأخذ الأمور إلى حدّها الأقصى، ويضحي بكل شيء في سبيل إحراز النقاء. إنه يتخلى عن الواقعية الدرامية التي تنتمي إليها مرحلته الأُولى ليصل إلى حالة الطهارة. تأثيره واسع، لكن ينبغي أن يظل حالة فريدة في تاريخ الفن. بالنسبة لي، كلما كانت الحياة أكثر وضاعة، ازددت تفاعلاً وبقوة عن طريق التعارض في الدعابة وفي تفجّر الحرية وامتدادها». مأساوي بطبيعته في موضع آخر، يعترف هذا الرسام، الذي سحرنا كثيراً بدعاباته المتألقة، بأنه مأساوي بطبيعته، وقليل الكلام.. «أنا متشائم. أعتقد أن كل شيء سينتهي بشكل سيئ جداً. إن كان ثمة عنصر فكاهي في لوحاتي، فهو غير مقصود بوعي. هذه الدعابة تنشأ ربما من الحاجة التي أشعرها للهرب من الجانب المأساوي لمزاجي الخاص. إنه رد فعل، لكن رد فعل إلزامي». إن دعابة ميرو غالباً ما تحوي نكهة عنف، وكثيراً ما تثير إحساساً بوحشية مقلقة جداً. إنه إسباني حتى النخاع. هجومه على الصورة الإنسانية، بصرياً وإدراكياً معاً، تدميري ومماثل لتحريفات بيكاسو العنيفة. إن التواءات وتعبيرات أشكاله تثير الضحك بسبب الهزل البريء والساذج الذي تتسم به، والضحك الذي يسببه شيء غريب أو متنافر. الدعابة هي الوسيلة التي بها ننتقل من مستوى إلى آخر، والتي تقدم شكلاً من أشكال الهروب، وميرو يستخدم الدعابة على نحو غريزي ليقودنا إلى ما وراء العادي والمبتذل، عارفاً بأن ذخيرة التفاهة والابتذال، التي تحيط بنا، هي المادة الأوليّة التي يستفيد منها في الرسم. إن سحر أعمال ميرو يكمن، قبل كل شيء، في قدرته على توسيع وتمديد إحساسنا بالواقع. غايته أن يرشدنا إلى عوالم المجهول التي تتخطى اللوحة، هذه الغاية التي تزداد وضوحاً مع تفجّر إبداعاته. إن محاولاته التي تتسم بالأمانة والمثابرة، واستعداده للتخلي عن الفتنة الوافرة التي تتحلى بها أعماله الأُولى، تمنحه الآن الطاقة التي يحتاجها في دوره التجاوزي كراءٍ قادر أن يأخذنا معه نحو أقاليم الرؤيا الأكثر علوّاً.