تُشكّل “ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين” السمة الرئيسة للسياسات الأمريكية تجاه دول المنطقة عموماً والبحرين بشكل خاص، والنماذج على ذلك عديدة، ولكن التدخل في شؤون القضاء واستقلاله والتعليق على أحكامه يعد تطاولاً ترفضه كافة الأعراف الدولية، على أساس أن القضاء هو أحد الأعمدة الأساسية لأي دولة حرة مستقلة، ومظلتها الحامية لسيادة القانون.
وما بين “خيبة الأمل” الأمريكية من أحكام القضاء البحريني على “الكادر الطبي” في قضية “احتلال مجمع السلمانية الطبي”، و«الهجمة الأمريكية” على الرئيس المصري محمد مرسي على خلفية تصريحاته يوم الجمعة الماضي في ميدان التحرير، بشأن تعهده بالعمل على إطلاق سراح الشيخ عمر عبدالرحمن والذي يقضي عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة، تتجلى بوضوح “الازدواجية” الأمريكية، التي لا تجد غضاضة أو حرجاً في التدخل في أحكام القضاء لدول ذات سيادة مثل مملكة البحرين، فيما ترى أن مجرد المس بالقضاء الأمريكي تلميحاً أو تصريحاً هو أمر مستهجن ومرفوض تماماً.
ويُجسّد حادثان وقعا موخراً الازدواجية الأمريكية بصورة فجة لا تقبل التشكيك، ترتبط الأولى بالتدخل الأمريكي السافر في شأن القضاء البحريني والتعليق على أحكامه في قضية “الكادر الطبي” المتهم باحتلال “مجمع السلمانية الطبي”، فيما تخص الثانية رد الفعل الأمريكي على خلفية تصريحات الرئيس المصري التي عدها المسؤولون الأمريكيون تدخلاً في استقلال القضاء الأمريكي.
ففي زيارته الأخيرة إلى مملكة البحرين قال مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل الأمريكي مايكل بوسنر، في مؤتمر صحافي عقده بتاريخ (14 يونيو 2012 ـ ونشر في صحيفة الوسط بتاريخ 15 يونيو 2012) في السفارة الأمريكية بالمنامة: “لقد أيدت محكمة الاستئناف في البحرين (الخميس 14 يونيو 2012) ادانة تسعة من الأطباء وبرأت تسعة آخرين ممن ارتبطوا باحتجاجات العام الماضي في مجمع السلمانية الطبي. بينما تم تخفيف العقوبات، نشعر بخيبة أمل عميقة حيال هذه الإدانات ولأن الحكومة البحرينية لم تستخدم وسائل بديلة لمعالجة هذه القضايا. كما قلنا في الماضي، يبدو أن هذه المحاكمات مبنية، على الأقل في جزء منها، على انتقادات المتهمين لإجراءات الحكومة وسياساتها. سوف يقوم المتهمون بنقض هذه الإدانات في محكمة التمييز. ونحن نحث على عمل مراجعة عاجلة لهذه الإدانات، ونأمل أن تؤدي هذه المراجعة إلى إسقاط جميع تلك التهم الجنائية من أجل طي صفحة أحداث العام الماضي وإصلاح النسيج الاجتماعي في البحرين”.
ويتضح من ذلك، أن المسؤول الأمريكي لم يكتفِ فقط بإبداء رأيه وانتقاده لأحكام القضاء البحريني والتعبير عن “خيبة أمله”، وإن كان ذلك في حد ذاته أمرأً مستنكراً ومرفوضاً، وإنما تخطى ذلك إلى ممارسة الضغوط على القضاء بالحث على مراجعة الأحكام بما يفضي إلى إسقاط التهم الجنائية عن المتهمين، رغم ما قدمته النيابة من أدلة موثقة تم على أساسها الحكم في القضية.
وإذا أضفنا إلى ذلك محاولات السفير الأمريكي لدى المنامة توماس كراجيسكي الدائمة للتدخل في شؤون البحرين والانتقاص من سيادة المملكة، فلن يكون من الصعب تفهم تزايد المخاوف في مملكة البحرين من تصاعد التدخلات الأمريكية في الشأن الداخلي التي تستهدف تنفيذ خطة الولايات المتحدة الأمريكية لتفكيك الدول العربية، والتي بدأت ملامحها تظهر منذ فترة في العراق والتي كان مهندسها “كراجيسكي”، والتي تريد الولايات المتحدة أن تجعل من البحرين محطتها الثانية لتطبيق هذا النموذج.
وبالمقابل ثارت الإدارة الأمريكية عقب حديث الرئيس المصري محمد مرسي عندما تعهد بالعمل على إطلاق سراح الشيخ عمر عبد الرحمن، والذى يقضي عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة بعد إدانته بالتورط فى قضية التفجير الأول لمركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، حيث نقلت (الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 1 يوليو 2012) عن مصدر في الخارجية الأمريكية قوله: “عندما سمعنا أن الرئيس المصري الجديد تعهد بإطلاق سراح الشيخ عبد الرحمن قلنا إن الرئيس المصري الجديد الذي درس في الولايات المتحدة، وحصل على دكتوراه من جامعة أمريكية، ربما يجب أن يعرف أن القضاء الأمريكي مستقل عن الحكومة”.
كما شنت صحف أمريكية انتقادات لاذعة للرئيس مرسي بسبب هذه التصريحات، وكتبت صحيفة “نيويورك بوست”: “هذه أخبار تدعو للقلق من مصر. يريد الرئيس المصري إطلاق سراح واحد من أخطر المجرمين في تاريخ الولايات المتحدة، وحكم عليه بالسجن المؤبد، وكان يمكن الحكم عليه بالإعدام لولا سنه وظروفه الصحية”.
وقال اندرو ماكارثي الذي قاد فريق الاتهام ضد الشيخ عبد الرحمن فى سنة 1995، ومؤلف كتاب “عمى متعمد: ذكريات عن الجهاد”: “ليس غريباً أن يطلب الرئيس مرسي ذلك، لأن باراك أوباما لا يبدو أنه حريص على أمن الولايات المتحدة في مواجهة الإرهابيين”. وحمل ماكارثي أوباما المسؤولية بسبب “تساهله مع الإرهابيين”.
وبالطبع لازال الموقف يتفاعل داخل الإدارة الأمريكية التي لم تبدِ حتى الآن موقفاً رسمياً سواء من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أو زارة العدل، والتي يتوقع ألا تختلف موقفهما عما تسرب حتى الآن بشأن رفض التدخل بأي شكل من الأشكال في شؤون القضاء الأمريكي، بالنظر ربما إلى أن الولايات المتحدة تحتفظ وحدها بالحق المطلق في انتقاد قضاء غيرها من الدول دون استحياء.