كتب - طارق مصباح:
«أنا عاطل عن العمل، ولا أجد إلا هذه الوظيفة، أطالب وزير البلديات أن يجد لي أي وظيفة في الوزارة وسأوافق حالاً». بهذه الكلمات انطلق لسان المواطن حسن علي عيسى ونحن نلتقيه متخذاً من أحد جوانب الطريق موقعاً يبيع فيه البيض والتمر والبطيخ و... عدد من أنواع المأكولات الطازجة،!!
وردّ عليّ المواطن حسين علي عبد الوهاب، وهو بائع جائل أيضاً، يمارس تجارته بسيارة «سكسويل» امتلأت بالمعلبات بأنواعها ابتداءً من «اللوبا» وانتهاءً بـ»الفول»! على استغرابي من بيعه مواد غذائية في الهواء الطلق: لتوفر لنا الدولة محال بإيجارات رخيصة لكي نتمكن من بيع بضاعتنا فيها.
وفي جانب آخر من الطريق، زرت محل خضار أشبه بـ»خيمة» أقيمت على قارعة الطريق لكني لم أجد «الأرباب» البحريني فطلبت من العمال الآسيويين الذين يعملون تزويدي برقم جواله وبالفعل نفَّس المواطن ناصر سعد الرميحي عن همومه قائلاً: أنا عاطل وأمتهن هذه المهنة «القانونية» التي تعينني على مواصلة دراستي لنيل الشهادة التي يمكنني بها أن أحصل على وظيفة أفضل.
هؤلاء المواطنون ليسو أول أو آخر من امتهن العمل كباعة جائلة «في شوارع المملكة»، وهم لديهم هموم كغيرهم من البشر على هذه الأرض، لعل المقدمة أظهرت جزءاً يسيراً منها، وإليكم بقية المشهد:
في أحد شوارع المحافظة الوسطى وتحديداً قرب السوق الشعبي لفت نظري وجود مظلة يباع داخلها «البطيخ» فأوقفت سيارتي جانباً لألتقي المواطن عقيل عباس حبيب وعماله الآسيويين الذين يعاونوه.
أخبرني عقيل أنه يمتهن هذه المهنة منذ صغره مع والده، وأنه يزاول تلك المهنة بترخيص من البلديات، وأنه لجأ إليها لأنه عاطل عن العمل وأن هذه التجارة مربحة بخاصة بيع البطيخ في فصل الصيف، فوجهت إليه سؤالاً: هل يشتري أحد البطيخ المفتوح هذا في هذا الَحر والغبار؟ أجابني: هذا فقط للعرض.. أما الزبائن فنعطيهم الجديد.. والمفتوح نعطيه للبهائم أكرمكم الله.
هل الزبائن هم السبب؟
عقيل لديه زبائنه الذين يفضلون الشراء منه على الشراء من البرادات -ولو كانت قريبة منه -ليس هو فقط، بل سائر الباعة الجائلين في الشوارع لديهم زبائنهم هذا ما رصدته خلال بحثي في هذه التحقيق لمدة استمرت شهراً كاملاً.
بو أحمد أحد زبائن هذه «البسطات» التي يباع فيها ما لذ وطاب، يقول: أشتري من عندهم لأنهم أرخص وأسرع لي وفي طريقي بدلاً من الذهاب للسوبر ماركت والبحث عن موقف، و»تعرف يا خوي بقية القصة»!
أما سميرة فايز، فقابلتها عند أحد الباعة وذكرت لي أنها لا تشتري كل ما لدى الباعة الجائلين ولكنها تشتري بعض الفواكه التي «لا تفسد بسرعة» وبخاصة قبل وقت الظهيرة.
لجأت إلى عضو المجلس النيابي والدكتورة المعروفة في مجال رعاية الأسرة سمية الجودر فأكدت لي خطورة بيع الأسماك واللحوم في الشوارع لأن الأفضل أن تكون في برادات مخصصة في الأسواق المركزية، مبينة أن الأفضل لهؤلاء الباعة بيع الملبوسات أو المأكولات المغلفة التي لا تدخل إليها مخلفات عوادم السيارات ولا تفسد بحرارة الجو.
وأرجعت الجودر سبب انتشار ظاهرة الباعة الجائلين بهذه الكثافة في أرجاء المملكة كافة بسبب الناس أنفسهم، لأنهم هم من يشترون منهم فيشجعونهم على البيع أكثر.
عمال.. ولكن بالقانون!
عودة للحديث الذي دار بيني وبين الباعة الثلاثة في بداية التحقيق، ذكر لي حسن علي عيسى أن عمال «الفري فيزا» ينافسونهم في هذه المهنة وانتشروا بنحو كبير، عازياً السبب إلى وجود بعض المواطنين ممن يؤجرون تلك الفرشات عليهم، وقال: «الناس صارت تروح لهم وتتركنا ظناً منهم أنهم يبيعون بأسعار أرخص من أسعارنا»!
أما حسين علي عبدالوهاب فكان معه عامل آسيوي يقود السيارة ويعاونه وهو على «كفالته».
واستعان ناصر سعد الرميحي بـ»اثنين» من العمالة الآسيوية، وقال هم على كفالتي ويأخذون أجرتهم اليومية بما مقداره «خمسة دنانير».
هؤلاء الباعة جميعاً أجمعوا على أن وجودهم في الشارع خطر وأنه غير حضاري وأنهم غير راضين تماماً عن وجودهم «منثرين» في الشوارع!!
شروط الترخيص وضوابطه
لجأت سريعاً إلى رئيس مجلس بلدي الجنوبية محسن البكري الذي قال لي أنه «لا يمكن إلغاء هذه المهنة»، مشيداً بقرار وزير البلديات في تنظيمها بحيث تضمنت القرارات وجوب توافر شروط في طالب الترخيص لممارسة حرفة بائع متجول هي أن يكون بحريني الجنسية وأن يكون بالغاً من العمر ثماني عشرة سنة، كامل الأهلية وأن تثبت لياقته الصحية وعليه بوجه خاص الالتزام بالأماكن والمواعيد التي تحددها له البلدية.
وكشف البكري عن الاتفاق مؤخراً لإقامة سوق شعبي في منطقة الحنينية والذي سيتيح لمن أراد من هؤلاء الباعة الانضمام فيه لبيع بضاعتهم في أماكن مهيأة ونظيفة ومجهزة.
وتجولنا في المحافظة الوسطى والتقينا فيها عضو مجلسها البلدي أحمد الأنصاري الذي شدد على ضرورة أن تكون المهنة لذوي الظروف الصعبة، لأن أغلب الشكاوى التي تأتينا إنما من أصحاب البرادات ومحال الخضار الذين يدفعون للسجلات والعمال ولديهم العديد من الالتزامات في حين ينافسهم أولئك في الخارج بسهولة. وأشاد الأنصاري بمشروع «البلديات» في وضع «أكشاك» خشبية في بعض الحدائق كخطوة أولى في السماح لهؤلاء الباعة في تنظيم عملهم في أماكن مهيأة، مبيناً أن القرار الصادر مؤخراً عن وزير البلديات يمنع بيع الأطعمة المطبوخة بجميع أنواعها والمشروبات.
المشكلة أكبر من «الفري فيزا»!
جولات هنا وهناك في المحافظات الخمس، وصور تشهد على عظم المشكلة وتفاقمها، ففي العاصمة قال العضو البلدي في العاصمة غازي الدوسري إن «قانون تنظيم الباعة الجائلين موجود ولكنه يحتاج إلى من يضع حداً لتجاوز العمالة الآسيوية»، مؤكداً أن هذه العمالة تبيع أغلى من السوق في بعض الأحيان!
وأضاف الدوسري: إن هؤلاء يسيرون في الشوارع حتى منتصف الليل، مناشداً الجهات المعنية «البلديات وسوق العمل» بوقف هذه العمالة عند حدها وتعاون المواطنين والمقيمين بعدم الشراء منهم.
وفي المحافظة الشمالية التقينا العضو البلدي خالد الكعبي الذي أبدى رأيه حول قرار الوزير مؤكداً ضرورة أن تبتعد هذه العمالة عن بيع بضاعتها في الشوارع مشيراً إلى العديد من الشكاوى التي تلقاها من الناس التي تلخص امتعاضهم من «ارتباك» الحركة المرورية في المناطق التي توجد فيها تلك العمالة سواء كانت بحرينية أو غير ذلك ناهيكم عن تلوث تلك البضاعة بملوثات الغبار ودخان السيارات والشاحنات مطالباً المواطنين بمراعاة الجانب الصحي وعدم تغليب العاطفة!
واقترح الكعبي أن تنشئ الوزارة أكشاكاً صغيرة لمن عنده رخصة البيع مع تخصيص مكان ثابت لها بعيداً عن الشوارع، مبيناً أنه وفّر عدداً من المحال الصغيرة في عدد من دوارات مدينة حمد ولكن المشكلة أن بعض الناس يتهافت على الشراء من الشارع وعدم مراعاة الآخرين.
ومن الشمالية توجهنا إلى المحرق لنلتقي العضو البلدي غازي المرباطي الذي أبدى أسفه أيضاً من هذه «الفوضى العارمة» التي اجتاحت أحياء المملكة وأسواقها ومجمعاتها، مناشداً الوزارة الاهتمام بالجانب الصحي بنحو أكبر وعمل دراسة شاملة حول هذه المهنة، ذاكراً لنا أبعاداً أخرى للمشكلة، ومؤكداً أن بعض هؤلاء العمال يخزنون بضاعتهم في أماكن مهجورة وآخرين يبقون لأكثر من عشر ساعات تحت لهيب الشمس والحرارة عارضين الفواكه والمأكولات على عوادم السيارات وغبار الشارع!
وقال: إن مشكلة الباعة الجائلين تحتاج إلى حل مشكلة عمالة «الفري فيزا» والبيوت المهجورة ويشترك فيها العديد من الأطراف التي لابد أن تتعاون معاً لحلها وتنظيمها بعد دراسة شاملة كافية لا باتخاذ قرارات فقط.