^  تلك كانت الخطوة الإيرانية، النابعة من تشخيص دقيق من قبل دوائر صنع القرار في طهران، لطبيعة الصراعات المندلعة في المنطقة، وموازين القوى التي تقف وراءها، دون أن تنسى -أي طهران- أنها تعبر اليوم حقلاً من الألغام عندما يتعلق الأمر برسم أطر دبلوماسيتها الخارجية، خاصة حين تدخل تلك الدبلوماسة دوائر أقرب المناطق لها جغرافياً، وعندما تمس واحدة من أكثر المناطق حساسية في جغرافيا السياسة الدولية، وهي منطقة الخليج العربي. إيران، إذاً تحاول من خلال تلك الزيارة أن تزج ببعض الثوابت التي يمكن أن تعمل لصالحها في حال وضع خارطة طريق جديدة للشرق الأوسط، المزمع رسمها من قبل قوى عالمية مثل الولايات المتحدة، وإقليمية مثل الكيان الصهيوني، وأخرى مهجنة بين العالمي والإقليمي مثل تركيا. بطبيعة الحال لم تكن إيران لتقدم على خطوة الاحتلال في السابق، ولا ليجرؤ الرئيس الإيراني، اليوم، على إطلاق مثل هذه التصريحات التي رافقت زيارته للجزر، لولا ثقة طهران أن حدود ردة الفعل العربية، خليجية محدودة أم عربية شاملة، لن تتجاوز إطارات الشجب الإعلامي، والتهديد السياسي، وهو تقدير صحيح، تجلت معالمه في تنادي الخليجيين، إثر زيارة نجاد، للقاء وزاري للتداول في الخطوة الإيرانية، واكتفاء بيان الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي بالدعوة إلى «ضرورة الامتناع عن مثل هذه الأفعال التي تزيد من درجة التوتر في المنطقة، وتعكر العلاقات العربية الإيرانية، داعياً إلى تسوية قضية الجزر الإماراتية الثلاث من خلال المفاوضات المباشرة أو باللجوء إلى محكمة العدل الدولية»، واستدعاء البعض لسفيره في طهران، لإبداء «امتعاضه» من تلك الخطوة غير المتوقعة من «الجار الإيراني». كل ذلك لا ينبغي أن يقودنا إلى استنتاج خاطئ يقضي بمباركة المواطن لهذا الموقف العربي «الناعم»، أو قبوله بالوقوف عند حدود الاحتجاج الصوتي الذي لا تتعدى تأثيراته على أرض الواقع أكثر من الإثارة السياسية والتصعيد الإعلامي. هناك مسؤولية تاريخية يتحملها الطرف العربي، وعلى وجه الخصوص الخليجي منه، الذي بات مطالباً بوضع خطة استراتيجية متكاملة تحدد أطر العلاقة التي يريد نسجها مع جاره الفارسي، ليست حقوقه في الجزر العربية، دون التقليل من شأنها، سوى نقطة في محيطها المترامي الأطراف. هذه السياسة كي تأتي أكلها السليمة، لا بد لها من تحديد ثوابتها ومتغيراتها انطلاقاً من دراسة واقعية علمية تشخص بدقة الأمور التالية: 1. وضع الخلفيات التاريخية في إطارها الصحيح، دون النزوع إلى تضخيمها، والانطلاق الراسخ من الواقع المعاصر عند معالجة نسيج العلاقات القائمة. هذا المدخل يتطلب توخي الحذر والدقة لتحقيق التوازن الموضوعي المطلوب بين صيانة الحقوق التاريخية المتضاربة لكل طرف، وعدم التفريط بأي من المصالح المعاصرة المتعارضة أيضاً لأي منهما. هنا يتطلب الأمر السير بحذر شديد في طرق ملتوية معقدة، من أجل الوصول إلى نهاياتها بصيغة معاصرة تبني طريقاً معبدة تفسح في المجال كي يسير فيها الطرفان وسط أجواء ودية لاتعكرها عواصف مفتعلة تتمسك بأهداب التاريخ، أو تصعد منها مشكلات تنذر بتفجير الحاضر. 2. نقاط التقاطع بين المصالح المشتركة، وبؤر التهاب القضايا المتنازع عليها، سياسية كانت تلك النقط أو البؤر أم اقتصادية. يجري ذلك من خلال رؤية الطرف العربي لنظيره الإيراني من خلال ثلاث دوائر رئيسة هي: الإقليمية (الخليجية/ الشرق أوسطية)، والعقيدية الإسلامية، والدولية النفطية. هنا يتطلب الأمر تضافر جهود الطرفين للعمل سوية، وبنوايا صادقة، من أجل الوصول إلى صيغة تعزز من إيجابيات نقاط التقاطع المصلحي، وتقلص من مثالب الالتهاب البؤري، في تلك الدوائر الثلاث، بما يحفظ المصالح الاستراتيجية العليا لكل طرف، دون تردد أي منهما في إبداء شيء من المرونة، بل وحتى التنازلات، عندما يتعلق الأمر ببعض المصالح الثانوية التي لا تمس جوهر المصالح الاستراتيجية والحقوق المرتبطة بها. 3. إمكانات التقيد بقيم التكافؤ المتبادل في العلاقات القائمة بينهما، دون إهمال أو إجحاف الثقل السكاني، والاقتصادي الذي بحوزة الطرفين. نظرة التكافؤ تلزم الطرفين باحترام بعضهما البعض، ويحولان دون توهم أحدهما أن بين يديه أوراق ضغط يمكن استخدامها لنيل بعض المكاسب الآنية، أو تحقيق بعض الأهداف المرحلية ذات الأفق الضيق. فعناصر الضعف وكذلك القوة متوافرة، وبحوزة الطرفين دون أي استثناء. فكما أن لكل منهما عضلات قوية بوسعه استعراضها، هناك أيضاً مكامن ضعف، لا ينبغي التقليل من مخاطرها، وتشكل خواصر لينة يمكن النفاذ منها. فعلى سبيل المثال، كما يقطن الساحل الغربي من الخليج أقلية فارسية العرق شيعية المذهب، يستقر في الساحل الشرقي منه أقلية عربية العرق سنية المذهب. على الطرف العربي هنا أن يصل مع نظيره الإيراني، ومن منطلقات العلاقة المتكافئة التي نتحدث عنها، إلى توافق إقليمي متكامل، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن أي إخلال بمعادلة العلاقات المتكافئة، تفسح في المجال أمام خسائر لن تكون من نصيب الطرف العربي وحده، كما تبدو على السطح، بل ستمس، وبعمق المصالح الإيرانية أيضاً. كل ذلك يدعو إلى أن تبادر عواصم مجلس التعاون، عبر الأمانة العامة للمجلس، أو من خلال أطر أخرى تراها هي مناسبة، إلى وضع خطة مشتركة، تحمل في ثناياها تلك الرؤية الاستراتيجية المطلوب تبنيها عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع طهران، وهو أمر لا مناص منه. فما لم تصل تلك العواصم إلى مثل هذه الرؤية الاستراتيجية، سيجد الطرفان أنفسهما، دورياً، أمام صدامات معلنة أو مبطنة، تفرضها نظرات تكتيكية مجتزأة، تحقق لصاحبها انتصارات قزمة لا تقود إلى النهايات التي تتطلبها الظروف المحيطة بالمنطقة، ولا تقبل بسواها العوامل التي أدخلتها في العلاقات الدولية القائمة مقاييس العولمة وشروطها