كتب - أمين صالح: لا نزال في حديثنا عن أفلام ستانلي كوبريك. وهذه المرة سيكون الحديث حول فيلمه « Full Metal Jacket «. لقد كتب المراسل الحربي السابق غوستاف هاسفورد روايته The Short- Timers ، عن تجربة الحرب الأمريكية الفيتنامية. وحين قعت الرواية بين يديّ ستانلي كوبريك، قال: «ما إن باشرت في قراءة الرواية، الصفحات القليلة الأولى، حتى اقتنعت على الفور أنها قصة مثيرة جداً، وأن من الأفضل أن أقرأها ملياً في الأيام المقبلة. كان واضحاً أنها رواية فريدة، استثنائية، ورائعة جداً» (New York Times, 21 June 1987). حوّل كوبريك الرواية إلى فيلم بعنوان Full Metal Jacket 1987 . ونظر عدد من النقاد إلى الفيلم كبيان مضاد للحرب، لكن كوبريك لا يريد فقط أن يدين الحرب، وأن يبرز السلوك الهمجي، اللاإنساني، الذي تفرضه الحرب، بل كان يهتم بالطريقة التي تمارس فيها الصور والقصص تأثيراتها على الأفراد، وتشكيلها للميثولوجيا والأيديولوجيا التي تتأثر بها ذهنية الفرد، والتي تفرض معتقدات وسلوكيات معينة على الأفراد. إن كوبريك يهتم بمسألة تشوّش الهوية الشخصية واضطراب النفسية البشرية عند تعرضها لضغوط خارجية لا يمكن احتمالها لشدتها وضراوتها. يقول كوبريك (Chicago Tribune, 21 June 1987): «ما جذبني إلى القصة، هو أسلوب الكتابة، والحوار، وحس الصدق الذي لا يساوم. القصة لا تقترح أي أجوبة أخلاقية أو سياسية سهلة. وهي ليست مؤيدة للحرب ولا مضادة للحرب. إنها تبدو مهتمة فقط بالطريقة التي سارت عليها الأمور. ثمة اقتصاد هائل في العرض والبيان، والذي حاولت أن أحتفظ به في الفيلم. إن كل ما تكتشفه بشأن الشخصيات يأتي من الحدث الرئيسي للقصة». العنوان نوع من التصميم العنوان يشير إلى نوع من التصميم حيث تكون الرصاصة مغلّفة بالنحاس، وهو في التعبير العسكري لقوات البحرية، يشير إلى خرطوشة البندقية أو الذخيرة الحربية الميدانية. والفيلم عن الجنود الأمريكان في حرب فيتنام العام 1968م، حين تعرّضت القوات الأمريكية لهجمات مفاجئة من قِبل الفيتناميين الشماليين، وما تبع ذلك من حرب شوارع عنيفة وضارية دارت في المدينة خلال عشرة أيام. ولا يعتمد الفيلم في بنائه، على الخط السردي الطولي، بل على أجزاء غير متصلة عضوياً، تضع المتفرج في الحالة التي يشعرها الجنود وهم يتحركون بلا هداية ولا توجيه، كأنهم في التيه. وفي جزئه الأول يركز الفيلم على التدريبات الشاقة والعنيفة في المعسكر، حيث يتم إخضاع المحاربين والتلاعب بهوياتهم الذاتية وتعريضهم للضرب والإهانة والسخرية والإذلال، وتشكيلهم بطرائق وحشية، مهينة وغير إنسانية، بحيث تنتزع من دواخلهم العاطفة الإنسانية، وتفقدهم حس التمييز بين الصواب والخطأ، وتزرع فيهم السلوك الحيواني أو الآلي، وتبلغ ذروة هذا الجزء في ارتكاب الجندي، الذي يجد نفسه على حافة الجنون، جريمة قتل لضابطه، وانتحاره العنيف. الجنود في الحرب في الجزء الثاني يتم رمي هؤلاء الجنود الشبان في أتون حرب شرسة يلتمسون فيها القتل، أو يختبرون فيها الجنون والموت. ويجدون أنفسهم في مدينة فيتنامية مدمّرة، يقتنص أرواحهم قناص ماهر، ليتضح في النهاية أنها فتاة فيتنامية، ضئيلة ونحيلة، تدافع عن أهلها وبلدها. يقول كوبريك (المصدر نفسه): «أنا لا ألوم الجنود على رؤيتهم الساخرة للحرب، وإخفاقهم في الاتصال بالفيتناميين على أي مستوى إنساني. هم غير مهيئين ثقافياً للوضع الذي أقحموا فيه، وحاجز اللغة ضاعف من الإخفاق. عندما وصلوا إلى هناك، سرعان ما أدركوا أن الحرب ميؤوس منها وأنهم تعرضوا، في الوطن، للتغرير والتلاعب والخداع، إذ قدموا لهم صورة زائفة للوضع». إن كوبريك يستجوب هنا بشكل ساخر وتهكمي، ومأساوي أيضاً، مفاهيم البطولة والشجاعة والفحولة والتضحية.. هذه المفاهيم التي تتكشف عن خواء رهيب، وأكاذيب مدمرة، ولا يعود لها أي معنى أو قيمة إزاء الجنون المهيمن والموت الذي يفترسهم واحداً واحداً.. هؤلاء الجنود السذّج الذين ظنوا أن الحرب مغامرة سهلة، ومجيدة، كتلك التي صورتها الأفلام بعد الحرب العالمية الثانية. يقول كوبريك (المصدر نفسه): «لو أجبروني على اقتراح شيء عن المعنى الأعمق للقصة لتعيّن عليّ القول بأن له علاقة بفكرة يونغ عن ازدواجية الإنسان: حب الغير والتعاون من جهة، والعدوانية والخوف من الأجانب وكرههم». توظيف اللقطات البطيئة تقنياً، وظف كوبريك في فيلمه هذا، كما في أفلامه السابقة، اللقطات المصاحبة tracking البطيئة، التكوينات المتناسقة، مؤثر الإحلال dissolves البطيء، حركات الزوم التراجعية، التغيّر في درجات اللون وفق ما تقتضيه الحالة الدرامية. يقول كوبريك (المصدر نفسه): «هنا حاولت فحسب أن أصوّر الأشياء على نحو واقعي، وآعمل على أن يكون ضوءها مثلما تُضاء في الواقع. في الموقع الداخلي استخدمت الإضاءة العملية لا التكميلية، كنت أسعى وراء المظهر الواقعي، الشبيه بنوع من الوثائقية، خصوصاً خلال المعارك». عن السبب الذي يجعل كوبريك يعود بين حين وآخر لطرح رؤاه من خلال نوعية الأفلام الحربية، وهذا الفيلم بالطبع لا يستعير عناصر وتقاليد وتقنيات الأفلام الحربية المألوفة، يقول (المصدر نفسه) : «الأفلام الحربية تقدم حدّة وكثافةً على المستوى العاطفي، وتقترح احتمالات بصرية عظيمة. وهي حافلة بالتهكم».