كتب – جعفر الديري:
مكان الروح ليس هنا. تقلّبت على الجمر، كطائر ترك أنثاه للضياع وهرب إلى البعيد. لا تلوميني يا بثين. كنت كمن سقط من عل. كانت عيناك تبتسمان، ترتجفان. وأنا أحاول اللحاق بهما.
بثين.. هل حاولت أن تنظري من سطح الدار إلى البعيد. عيناك هذا الحلم الشارد أكبر مما وصلت إليه. إنه مدى لا نهاية له. أما أنا فسؤال أكثر ما أتطلع إليه أن يبعث بي إليك.
أفلت نجوم الليل ولاأزال بمكاني. أتطلع إلى النخلة الوحيدة، فأحس وكأن رئتيّ تتمزقان، وأساورك الفضية في جيبي تكاد تتحول إلى نمل أبيض. حتى القرط الذي أهديتك إياه! لايزال يشمخ في صمت، متحدياً عيني، مترسماً سبيل من سبقني.
بثين. لا تحسبيني واعظاً تائهاً في زحمة الكفار. كنت كقارب لجأ للشاطئ صباحاً. فقذفته الريح إلى جزيرة لا رمل فيها. أية رائحة معتمة أوصلتني إلى شجر لا ورق فيه. وإلى موت متخثّر مثل نافورة لا ماء فيها. أية مرآة نبذت ضوءاً في الغسق فاختلجت كمن يئد ابنته في التراب. بثين. مال بي المكان وحركني موج لا نهاية له. كنت أحد عشرة سلكوا الطريق نفسه، وتوهموا النجاة. كانت الطفلة التي حلمنا بها، تتراءى لي مثل غزالة تنتظر من يسرقها. أي روح تبدت من خلال الشفق، فدفعت بي إلى مكان الجان. أي عنق أبيض تفجر بالدم أغراني أن أتنكب الطريق. رأيتهم ينتهبون الأرض يبحثون عن أول من سلك الطريق. تراءيت مثل خيمة ترتفع إلى السماء ثم تهوي. التقطتك عندها فوجدت في كفي مالاً كثيراً، أستر به عورتي. وأداهن به ما تبقى من أيامي. بثين.. كنا جلوساً. نعاقر الخمرة. نكاد نتمزق مثل موت يأخذ فرحه من عيون الغيد. كانت وجوه من معي تشبه من سلك البحر دون ربان. أما أنا فكنت أخفي وجهي عن عصابة كانت الثقوب في أجسام أصحابها قد ساحت على الأرض، وملأت المكان وتسرّبت إلى خارج الدار. كانوا يلهون بانتظار الموت. كانت آذانهم مثل جمرة أيقظت من نومها للتو. ذكرتني برائحة ابن آوى حين ينقلب إلى ذئب. حين رأيتهم يتباهون بقتل أول من سلك الطريق. كانوا يضحكون وكانت مردة سود تتراقص حولهم. وحين أمسك الأبله .. أواه يا بثين.. بفتيلة المصباح كي يشعل النار، أطبقت عليه النار، فررنا منه، فاندفع إلى خارج الخيمة. جرينا وراءه. ألقينا عليه كل ما لدينا على النار ترفق به. لكنه ألقى بنفسه في البئر. وبقيت النار تشتعل في جسمه.. حتى طفا إلى سطح الماء جثة هامدة!. بثين. أعيذك أن تتسربلي بريح لا راية لها. سأظل أبكي حتى ينخلع وجهي عن جسم لا يشبهني.. رحلت كل خيامهم. وبقيت وحدي. لا مكان لي أجلس فيه. ظللت واقفاً حتى تفسخت رجلاي، واشتعل جسمي دوداً بدأ يأكل ما تبقى من حلمي. حتى أطل عليّ. في صحراء لا نهاية لها. أخذني إلى أرض كل أشيائها حمراء. ارتفع بي إلى سماء تكاد تذبح أبناءها. كنت أرى النار تفتح فاها. ارتضيت أن أظل في السماء، يأكل أضلاعي البرد. تسليت بذلك عن أن يلقى بي في النار. لكنه أسقطني. حاولت التشبث به، دون فائدة. ألفيت جسمي يتحول شيئاً فشيئاً إلى لا شيء. كنت أصرخ دون أن يسعفني أحد. كنت أناديك، ولم تسعفيني. كنت أتأمل في كفيّ وهما تتحولان إلى ضباب. ولم تحاولي مساعدتي. حين استيقظت أحسست وكأني أتحول إلى ضبّ يدفن رأسه في الصخر. خرجت فوجدت الناس جميع الناس. ينظرون إليّ، ويهربون. كانت صرخاتي قد أفزعتهم. كانوا يشاهدون اثنين يجريان. واحد إلى جهة اليمين وآخر إلى الشمال. كان رأس ينهدل على كتفي. وآخر أمسكه بيدي. هربت فوجدتني أدخل في النفق نفسه. ارتفع إلى سقف السماء ثم يلقى بي إلى النار.
أواه يا بثين. ما أصعب أن أرحل عن زمن كنت فيه طفلاً لا يعي من الحياة شيئاً... ماذا لو رأيتيني الآن. أكنت تشتاقين إلي كما يتعذب هذا الجانب من قلبي؟! أكنت تشترين بقية الحلم الغارب وراء الليل بساعة أشتريها بما تبقى لدي من عمر؟! ماذا لو رأيت وجهاً، أوجعته النبوءة فأمسى تتدافع فيه الصحاوى؟ أكنت تحبينني كما يتمزق هذا الوجه؟!.