بقلم ـ نزار السامرائي:

ليس كل إمبراطورية أو دولة استطاعت الخروج من داخل حدودها الطبيعية، والتمدد على حساب أراضي الغير، مما عرفه تاريخ الشعوب من دول فرضت حضورها على مجرى التاريخ، أو انطلقت عن تراكم فكري وثراء سياسي، كثير منها اعتمد على تنمية مبادئ الفروسية والتدريب العسكري دفاعاً عن النفس بوجه محاولات القبائل الأخرى التي كانت تسعى لبسط هيمنتها على القبائل المجاورة، والسيطرة على المراعي ومصادر المياه، ولكنها حينما شعرت أن قوتها أصبحت أكثر من حاجتها للدفاع عن نفسها، انطلقت تحرك جيوشها الجديدة في جميع الاتجاهات، حتى إذا وجدت سداً مانعاً توقفت عنده، ثم سرعان ما تبخرت موجوداتها وكأنها لم تلبث سوى لحظة قصيرة من عمر الزمن.

ولعل في تجربة الإمبراطوريات التي أقامها كل من جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك، التجسيد العملي لهمجية القبائل التي لم تحسن إلا فنون القتال والفروسية، فحملت معها أسباب الدمار والخراب على كل أرض مرت فوقها أو على مقربة منها، وكما أن تلك الإمبراطوريات قفزت من المجهول في لمح البصر، فإنها غادرت مسرح الأحداث في زمن قياسي.

صحيح أن الصين واليابان والهند امتلكت في الماضي، عمقاً حضارياً غنياً يمتد لما قبل ميلاد المسيح، إلا أن أياً منها لم تحمل مشروعاً إنسانياً أو توسعياً عابراً للحدود، مع أن نزوات التوسع مرت على خاطر قادتها في لحظات الشعور بتخمة القوة التي تسعى للتنفس خارج أراضيها، وهكذا يمكن الافتراض أن تلك الحضارات التي استندت إلى وجود دولة متماسكة، لم تنجح في أن تنشر ما عندها خارج حدودها، إما استئثاراً بإنجازاتها لنفسها، أو لعزوف الآخرين عن قبول فكرة التلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب المنتمية إلى أعراق وديانات مختلفة، أو لتعقيدات ترتبط بصعوبة اللغات الآسيوية.

الصراع بين الحضارة والهمجية

وفي الوطن العربي وخصوصاً في بلاد ما بين النهرين ومصر، نشأت البؤر الأولى لمجتمعات المدينة حول الأنهار، وما أفرزه الاستقرار والصراع معا، من إشعاع فكري وحضاري انتقل مع الوقت إلى سائر أرجاء المعمورة، واستطاعت دول المدن ومن ثم الدول المتوسعة في حدودها، الجمع بين الحضارة العميقة الجذور، وقيام الدولة الإمبراطورية الكبيرة التي ترامت أطرافها، متجاوزة الحدود الفاصلة بين الأمم القديمة، وعلى تخوم الوطن العربي عاشت أقوام همجية، لم تتمكن وربما لم ترغب، بالانتقال من حالة التخلف التي كانت عليها، ولم تستطع الانتفاع من الفرصة المتاحة قريباً منها، وبدلاً من التعاطي البنّاء مع إنجازات الآخرين وبذل الجهد من أجل استيعابها، فإنها شنت غزوات متواصلة على تخوم الدول المجاورة لها، رغبة منها لمنع جيرانها من توظيف الإنجازات التي حققوها في إرساء قواعد النهضة الاقتصادية والمعرفية، ولم ترغب أو لم تتمكن من الارتقاء إلى مستواها، وتجسد القبائل العيلامية المتخلفة والتي عاشت على التخوم الشرقية للعراق، هذا النمط من السلوك المرتد حضارياً.

وربما وضعت هذه الخصوصية الشاذة، الأساس الذي قامت عليه علاقات الإمبراطوريات والدول التي نشأت في المنطقة المحصورة من أفغانستان شرقاً، إلى البحر المتوسط غرباً، ومن جبال الأناضول شمالاً، إلى البحر العربي ونقاط التقائه بالمحيط الهندي جنوباً، وتميزت هذه العلاقات بالنزاعات المسلحة والحروب المستمرة لعوامل ترتبط بالثروة أو اختلاف العرق والدين، على نحو يعكس حالة عدم الاستقرار، أكثر من أية منطقة أخرى في العالم، ما يصطلح عليه اليوم بصراع الحضارات، على الرغم من أن هذا الصراع كان على الدوام، قائماً بين الحضارة وأدواتها الفكرية والعملية من جهة، والتخلف والهمجية من جهة أخرى.

ظلت منطقة الحدود الفاصلة بين بلاد فارس والوطن العربي، الأرض التي دارت فوقها ومنذ القدم وحتى الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت ثماني سنوات، أكبر معارك التاريخ، ولم يتمكن المنتصرون من فرض شروط انتصارهم على المهزومين، الذين كانوا على الدوام يغيرون من أساليبهم، ويحيطون أنفسهم بأسيجة متتالية من التقية والخديعة والمناورة، انتظاراً لفرصة يستردون فيها أنفاسهم لمعاودة الكرّة مجدداً، وكانت معركة القادسية التي خاضها العرب وانتهت بانتصارهم في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، المعركة الوحيدة التي اقتلعت الإمبراطورية الفارسية الساسانية من جذورها، وهي التي كانت تتقاسم مركز الاستقطاب الدولي، مع إمبراطورية الروم في العالم ذلك الوقت، عن خارطة الجغرافيا السياسية والتحقت بلاد فارس بالدولة العربية الفتية، وظلت هذه العقدة محركاً لجميع عوامل الكراهية، ونتيجة انتصار العرب، انتشر الإسلام شرقاً حتى وصل مع الوقت إلى الصين، ولكن المنتصرين في تلك المعركة، أخفقوا إلى حدود بعيدة في دمج السكان المغلوبين في منظومة القيم الجديدة.

ومنذ ذلك الوقت بدأت صفحة الكيد للإسلام من داخله بعد انضمام أقوام شعروا بأنهم فعلوا ذلك على كراهة وبحد السيف، بعد أن تأكد الفشل في التصدي له وجهاً لوجه، ويبدو أن إظهار الإيمان وإخفاء عبادة النار، كان عاملاً لإبقاء النار تحت الرماد بين المنتصرين والمغلوبين حتى اليوم، فالعجز عن مواجهة الدين الإسلامي سواء بقوة الحجة أو بقوة السلاح، هو الذي دفع بمنظومات صنع القرار في المجتمع الفارسي حينذاك، إلى الدخول في الإسلام والعمل على نخره من الداخل، ويمكن الاستدلال على ذلك من أن معظم الحركات الباطنية، وحركات الزندقة والانحراف في الفكر الإسلامي، نشأت وترعرت في بلاد فارس، متلقية جميع أشكال الدعم المالي والعسكري، من جانب كهنة معبد النار ورجال بلاط كسرى، وحاولت تلك الحركات أن تنتسب إلى عمليات التجديد الفكري في الإسلام أو تصوير نفسها على أنها حركات لفهم أعمق للرسالة الإسلامية، فدخلت على الإسلام ممارسات وطقوس فيها مزيج غير متجانس من اليهودية والزرادشتية والمسيحية، وخاصة ما يتعلق بمبدأ التوحيد الذي يعد الأساس الراسخ للإسلام، على الرغم من أن الإسلام كدين سماوي لا يخضع للتجديد في أصوله، وأن تلك الدعوة انطلقت ولم يمض قرن على بداية نزول الوحي على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فهل يصدق عاقل أن تلك الدعوة كانت تجديدية؟ أم أنها حركة تريد إدخال البدع والخرافات إلى الإسلام؟

التاريخ يعيد نفسه

وحافظ خزين الكراهية لدى الحكومات التي تعاقبت على حكم إيران، على فعاليته في تحديد مواقفها من العرب عموماً ومن العراق بوجه خاص، على نحو تدخلات رافقها استخدام للقوة في كثير من الأحيان، فجسد القرن العشرون التقاء المصالح الاستراتيجية بين الدول الغربية التي قطعت أشواطاً بعيدة في بسط هيمنتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبين شاهات إيران المتعطشين لإعادة بناء إمبراطوريتهم القديمة مع تغيير خطابها السياسي والديني، فوق أراضي الوطن العربي، والأقاليم التي تعيش فوقها أقوام محدودة السكان، فقيرة حضارياً، لم يمر التاريخ عليها، بل ظلت على هامشه قروناً طويلة، وكان لافتاً أن الغرب الذي وضع الوطن العربي، على مشرحة التجزئة والتقسيم بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وشطر جزأه الآسيوي عن الأفريقي بمنح فلسطين لليهود بموجب وعد بلفور لإقامة (وطن قومي لهم)، فوق أرضها، كان وبخطط قوية، يدعم قيام دولة قوية أكثر مما ينبغي في بلاد فارس، والتي ستتجاوز لاحقاً عقدة الاسم القديم والمثير لأسباب الضغينة، لتصبح دولة إيران الجديدة واجهة للتحديث والتواصل مع نتاجات التكنولوجيا، والتي ستضم أجزاء شاسعة من الأرض العربية من إقليم الأحواز، تفوق في مساحتها أضعافاً عدة من مساحة فلسطين، وربما تحولت إيران وبدعم غربي إلى شافطة كبرى، لالتقاط سائبة الإبل العربية (أراضي وجزر)، كما حصل في الخديعة المشتركة التي تعرض لها الشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة، فتم اعتقاله أثناء وليمة طعام على ظهر يخت الخديعة، وتم ضم الإمارة العربية إلى ممتلكات الدولة الآخذة بالتوسع بمباركة بريطانية حينما كانت الأخيرة في أقصى درجات الإغراء للتنقيب عن نفط مسجد سليمان الذي أصبح فيما بعد جزءاً من ممتلكات إيران، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تحولت جزر عربية كثيرة في الخليج العربي، إلى كرات تتقاذفها أرجل اللاعبين الدوليين والإقليميين، وفجأة وعبر التواطآت نفسها، تحولت مئات من الجزر العربية الكبيرة والصغيرة على طول الساحل الشرقي للخليج العربي، إلى ملكية إيران بعد أن تم تزوير شهادات الميلاد والمنشأ والانتماء، ولم يتوقف التواطؤ حتى عندما كانت بريطانيا مسؤولة أخلاقياً وقانونياً عن سلامة الأراضي الواقعة تحت احتلالها، وهو ما حصل عندما انسحبت بريطانيا من شرق السويس مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي، فأعطت لإيران الشاه شارة البدء في ضم ما تشاء من الجزر الأخرى، فكان احتلال الجزر العربية الثلاث أبرز أحداث تلك الحقبة القاتمة، ولكن شهية دركي الخليج، لم تتوقف عند هذا الحد، إذ ارتفعت في سماء الخليج العربي دعوات فارسية لضم البحرين إلى ممتلكات الإمبراطورية الفارسية استناداً إلى أوهام تاريخية، تدحضها حقائق الجغرافية التي لا تخطئها العين، ولكن الشعب البحريني تصدى بوعيه وبشجاعة الانتماء العربي، لمحاولات القضم المتدرج التي تعتمدها الحكومة الإيرانية، وسط صمت غربي يمكن الجزم بأنه دعم مفتوح، لدولة لا تمتلك موروثاً تاريخياً محملاً بحساسيات الماضي، كما هو شأن الغرب مع العرب.

هنا قد يثور تساؤل مشروع عن أسباب هذا الانحياز الغربي إلى جانب إيران، ضد التطلعات المشروعة للشعب العربي بالحرية وتوحيد الوطن العربي.

لم يشهد الغرب صداماً مباشراً مع إيران باستثناء ما حصل في بداية الرسالة الإسلامية وهو ما جسدته سورة الروم، وهي المعركة التي انتصر فيها الفرس على دولة الروم، وتفتقت أذهان الشلة المحيطة بإيوان كسرى عن شروط مذلة أرادوا فرضها على دولة الروم مقابل الصلح، ولكن الأحداث أخذت مسار التحدي بدلاً من الخضوع حتى تمكن الروم من هزيمة بلاد فارس بعد أن حشدوا للمعركة أقل من نصف ما طلبه الفرس منهم من غرامات حربية، ويبدو أن الذاكرة الغربية التي حافظت على اتقادها المفرط في الكراهية مع العرب، بسبب كنس دولة الروم من بلاد الشام بعد الفتوحات العربية الإسلامية في معركة اليرموك، وكذلك فتح الأندلس وإقامة الدولة العربية الأموية هناك، طوى صفحة تلك الحرب التي أذلت بها بلاد فارس دولة الروم، ولكن الغرب لم يشأ على الإطلاق طي صفحة معركة اليرموك، وهذا هو الذي أوجد جواً عدائياً مضاداً للعرب والإسلام، لم تتمكن جميع دعوات التسامح التي كانت أوربا تطرحها وخاصة بعد عصر النهضة مع جميع الأمم، باستثناء العرب، من تخفيف وطأته، وشحنت تجارب حروب تحرير الشام والعراق من الدولتين المتعاديتين، الساسانية الفارسية والرومية المسيحية، أجواء أوربا بفتاوى بابا الفاتيكان بإعلان الحرب المقدسة، وحينما كانت الكنيسة لم تنزع أسنانها بعد، لشن الحروب الصليبية والتي انتهت بمعركة حطين التي قادها صلاح الدين الأيوبي بنتائجها المعروفة، ولكن الانتقام ظل جذوة تحت الرماد ينتظر الفرصة المناسبة لتفريغ شحناته، وتمثل مقولة الجنرال الفرنسي غورو وهو يقف مزهواً أمام قبر صلاح الدين الأيوبي: (انهض صلاح الدين فقد انتهت الحروب الصليبية)، ظاهرة التصادم بين عالمين، لم تنجح حتى الانتصارات التي حققها الغرب عندما احتل المشرق العربي من إطفاء جذوتها، حتى استكملت بريطانيا وفرنسا احتلال الوطن العربي، ومن ثم توزيع إرث الدولة العثمانية بينهما، فجاء القرن العشرون حاملاً معه الزلازل والبراكين السياسية المدمرة، فكانت اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م التي وزعت الوطن العربي وكأنه صحراء تم اكتشافها تواً على الحلفاء المنتصرين في الحرب الثانية، وبعد عام جاء وعد بلفور عام 1917م، وهما من أخطر ما واجه الأمة العربية من خطط استراتيجية لإضعافها وتفكيكها، لكن الوقائع الميدانية تؤكد أن الدعم الغربي المفتوح لإيران مع بداية توسع حدودها على حساب أراضي الدول المجاورة، كان في واقع الحال أبعد ضرراً أو على الأقل مكافئاً لضررهما على الأمة مما لحق بها من سايكس بيكو وبلفور، فإيران كدولة إقليمية تستطيع تحريك قواتها المسلحة من غير حاجة لنقلها لآلاف الكيلومترات، مع أسلحة حديثة كانت تحصل عليها من حلفائها، بمقابل نزع السلاح عن العرب بصنوفه كلها، ثم أن إيران وعبر التاريخ ما كانت لتكترث لما تتكبده من خسائر بشرية مهما كان حجمها، على طريق تحقيق أهدافها الإمبراطورية.

قراءة في الأمن القومي العربي

تفرض منظومة الأمن القومي العربي، على جميع الدول العربية، العمل المشترك لمواجهة التحديات التي تهدد الأمة العربية أياً كان مصدرها، ومهما كانت طبيعة العلاقات التي تربط هذا البلد العربي أو ذاك، مع القوى الخارجية التي قد تمثل خطراً آنياً أو مستقبلياً على الأمن القومي.

ولا يتوقف الأمر عند هذا المستوى من التنسيق، وإنما ينبغي أن يرتقي إلى مستويات متقدمة من العمل الذي لا يسمح بأي تعاون مع طرف ثالث يمكن أن يهدد الأمن الوطني لأي بلد عربي، ويمكن إيراد أمثلة كثيرة على هذا الفعل الذي يلحق ضرراً بالمصلحة القومية، ولعل في مقدمتها تقديم دول الخليج العربي الثرية، قروضاً أو مساعدات لدول غير عربية، من دون أن تشترط على الدول المستفيدة من القروض، ألا توظفها في مشاريع يمكن أن تهدد الأمن القومي العربي، من قبيل القروض التي تمنح إلى دول أفريقية تقع على حوض النيل، مما قد يؤدي استخدامها في إقامة سدود إروائية على حوض النيل، إلى تهديد الأمن الوطني المصري، مع انعكاساته المدمرة كلها على أمن الأمة العربية، وما يصح على النيل يصح على دجلة والفرات في العراق، وسائر الأنهار الجارية في الوطن العربي، وتنبع من خارجه.

إن أزمة المياه في الوطن العربي، تعد واحدة من معضلات المستقبل القريب ويذهب كثير من خبراء المياه وكذلك خبراء القانون الدولي، إلى أن الوطن العربي لا يمتلك موارد مائية وطنية، بل يأتي معظمها من خارجه مما يضعه في الكفة الضعيفة من ميزان القوى، وخاصة أن الأغراض السياسية تلعب دورها في رسم سياسات مائية لدول المنبع تفوق حاجاتها الوطنية، مما يترك تفسيراً واحداً لمشاريعها المقترحة، بأنها بالأصل تسعى للإضرار بالوطن العربي وإضعافه سياسياً واقتصادياً، وإذا لاحظنا أن إسرائيل هي التي تخطط للمشاريع الإروائية في دول منابع النيل، فإننا لن نتأخر في اكتشاف كنه الدوافع الإستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها، فهذه المشاريع، تهدد الأمن الغذائي العربي تهديداً جدياً، وترهن الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية، لإرادات مجهزي الغذاء الكبار في العالم، على هذا فإن سياسة الإقراض العربي، يجب أن تخضع إلى معايير صارمة، فلا تمنح لبلدان يمكن أن توظفها ضد بلدان عربية أخرى، وتتخطى في تفاصيلها، أية خلافات بين الدول العربية نفسها.

ما يصح على سياسة الإقراض، ينطبق بدرجة أو أخرى، على العلاقات السياسية مع الدول التي تمتلك مشاريع مضادة للأمة العربي، فنحن نعرف أن إيران تحاول الخروج من الشرنقة التي حصرت نفسها بها، بعد أن فقدت كثيراً من خطوط مواصلاتها وجسورها مع العالم، ومع دول منطقة الخليج العربي.

صحيح أن حالة الحرب في إطارها القانوني لم تعلن بعد بين إيران ودول المنطقة، لكن الصحيح أيضا أن إيران تحتل أجزاء مهمة من الأراضي العربية، وتهدد بين آونة وأخرى بضم دول عربية مستقلة إلى ممتلكاتها، وبالتالي ينبغي على الأطراف الأكثر تضرراً من المشروع التوسعي الإيراني، أن تكون الأكثر تشدداً في مواقفها من إيران.

مؤخرا زار وزير خارجية إيران، دولة الإمارات العربية، ومن حق الإمارات العربية أن تمضي في خيار الحوار السياسي وعبر القنوات الدبلوماسية حتى نهاية الشوط، ولكن هل راقب المهتمون بالشأن الإيراني توقيت الزيارة والأهداف المرجوة منها؟

بعد أن بدأ تطبيق الحظر الأوروبي على استيرادات النفط الإيراني، وبعد أن أخذت العقوبات الاقتصادية الدولية على طهران تعطي نتائجها على الشارع الإيراني بصفة انهيار للعملة وارتفاع للأسعار على نحو غير مسبوق مع تململ شعبي يمكن أن ينتج ربيعاً آخر، تحاول الزعامة الإيرانية، العودة إلى سوق الإمارات العربية، كمركز تجاري بديل، لتأمين كثير من الصادرات الإيرانية كالسجاد والكافيار وغيرها من السلع الصناعية، كي تنتقل من هناك إلى مختلف أنحاء العالم، وتأمين السلع التي تحتاجها إيران من السوق المحلية في دبي بنحو خاص لاسيما الصناعات الإلكترونية المتطورة والتي تدخل في مجال البرنامج النووي الإيراني، فهل حاولت دولة الإمارات العربية في قبول مثل هذه الزيارات المثيرة للجدل، أن تحقق مكسباً سياسياً ولو من قبيل الإبقاء على ملف الجزر الثلاث مفتوحاً وغير قابل للطي؟ خاصة وأن إيران في موقف تفاوضي ضعيف إلى حدود بعيدة، أم أنها بعثت برسائل محددة إلى الزعامة الإيرانية أن الإمارات لن تكون أول طرف يخرج على الإجماع الدولي؟ لا سيما وأن دولة الإمارات تعد في الوقت الحاضر أكثر طرف متضرر من سياسة التوسع الإيراني.

إن الظرف الراهن يقتضي من دولة الإمارات العربية وسائر دول الخليج العربي الأخرى، تصعيد مواقفها السياسية تجاه إيران، لأن إبداء المرونة في غير محلها سيبعث برسالة خاطئة إلى الزعامة الدينية الإيرانية، وربما يمثل الإصرار الإيراني على تغيير تسمية الخليج العربي إلى اسم دخيل، واحداً من مظاهر صراع الإرادات وليّ الأذرع في هذه المنطقة، قد يذهب بعض ذوي النوايا الحسنة إلى عدم أهمية التسمية، خاصة وأن بعض الجهات الدولية تستخدم المصطلح الإيراني لاسم الخليج العربي، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فانتصار أي طرف في هذه المعركة سيعني فتح صفحات جديدة لصراع الإرادات، لن يعرف التوقف عند حد معقول، فالأمر ليس شكلياً كما يحاول باحثون عن الحلول السهلة، بل هو موقف يتصل بالمبادئ العليا للأمة في مواجهة محاولات السطو على تاريخها واسمها، بعد السطو على ثرواتها، وإن أكثر طرف مطلوب منه التمسك بتسمية الخليج العربي، هي دول الخليج العربي نفسها. ولعل الجهد الأكبر يقع على الفضائيات العربية، وخاصة الجزيرة والعربية، لكن ما يثير الدهشة أن قناة الجزيرة التي تطرح نفسها كقناة إخبارية مستقلة، كانت في موضوع تسمية الخليج العربي، تلتزم موقف الحكومة القطرية التي تسعى للإمساك بالعصا من وسطها، كي لا تثير لنفسها إشكالات سياسية تظن أنها لا طاقة لها بها، فمنطق المجاملة السياسية لا يمكن أن تفهمه إيران إلا على أنه خوف من بطشها، وإلا بماذا يمكن أن نفسر اعتذار مذيعة النشرة الجوية في قناة الجزيرة، عندما تحدثت عن التطورات المناخية في منطقة الخليج وأضافت إليه صفة العربي، ولكنها استدركت واعتذرت وذكرت اسم الخليج مجرداً، هل يظن من يقف وراء ذلك أن إيران ستنظر إليه باحترام؟ وبالمقابل هل تبدو إيران على استعداد لمجاملة أحد كائنا من يكون في تسمية الخليج العربي؟

الانسحاب من المواجهة قبل بدء المنازلة، أسوأ أشكال الهزيمة، والقبول بخوض المعركة فضيلة كبرى، شرط الاستعداد لها وتوفير مستلزمات النصر، ولا أحد يظن أن العرب أمة كتبت عليها الهزائم في العصر الحديث.