قبل ثلاث سنوات وتحديداً في العام 2009 عبّر الرئيس الفرنسي السابق (نيكولا ساركوزي) عن أسفه لتأخر فرنسا في توثيق ارتباطها سياسياً وتجارياً مع مملكة البحرين، وركز انتقاداته إلى كون البحرين وعدد من دول الخليج العربي متأثرة بالنفوذ الأمريكي والبريطاني. إلا أن كلاً من البحرين وفرنسا ترجمتا هذه الانتقادات إلى واقع ملموس من خلال تفاعلات سياسية وتجارية أخذت تجري في ساحة العلاقات البحرينية الفرنسية، وارتسمت ملامح جديدة للدبلوماسيتين الفرنسية والبحرينية تجاه بعضهما بعضاً.

وقال الرئيس الفرنسي السابق (ساركوزي) أثناء زيارته في العام 2009 لكل من مملكة البحرين، والكويت، وسلطنة عمان «إنه من المؤسف ألا يجري الاستثمار في هذه الدول الثلاث مع أن لديها احتياجات كبيرة»، وأشار أيضاً إلى أن دائرة التفاعلات السياسية بين هذه الدول وكل من الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا تؤكد حاجة الدول الخليجية إلى البحث عن أطراف دولية أخرى ومتنوعة.

ولم يظهر الوعي الفرنسي بضرورة العمل سياسياً وتجارياً مع مملكة البحرين متأخراً، حيث تؤمن الخارجية الفرنسية بأن فرنسا وإن جاءت متأخرة في تعاملاتها الوثيقة مع البحرين فإنها بكل تأكيد ستكون الرابح الأسعد لاسيما في ظل الامتيازات السياسية والتجارية التي قد تحصل عليها فرنسا من علاقاتها مع مملكة البحرين.

سياسياً، عبرت فرنسا عن دعمها التام وثقتها الكاملة في النظام البحريني والإجراءات التي اتخذها خلال الأحداث التي شهدتها البلاد في مطلع العام 2011. وتجارياً، فإن فرنسا تعقد العزم على أن تجد سوقاً إقليمياً يسمح لمؤسساتها وشركاتها التجارية من الخروج من الكساد الأوروبي والتوجه إلى البحرين لتتخذ مقارها وفروعها وتبدأ من ممارسة أنشطتها لتحقيق الأرباح التي تحاول جنيّها.

وحثت الحكومة الفرنسية كافة شركاتها ومؤسساتها التجارية للاستثمار في منطقة الخليج العربي، وجاء اختيار البحرين كأحد دول الخليج للاستثمارات الفرنسية بعد أن حققت المملكة نتائج اقتصادية دلت عليها المؤشرات والمعايير الصادرة من هيئات التحكيم التجارية الدولية.

واليوم يرى المراقبون أن البحرين وإن تأثرت قليلاً بسبب الأحداث التي شهدتها مطلع العام الماضي، إلا أن البحرين قادرة بسبب دعم الحكومة وثقة العملاء الدوليين من أن ترجع بمقاييسها ومعاييرها إلى المراتب التي احتلتها قبل هذه الأحداث. وإن المصالح المشتركة بين البلدين تدفع فرنسا إلى الاقتراب من دول مجلس التعاون الخليجي بهدف تأمين احتياجاتها من النفط والغاز، كما إن الدول الخليجية تطمع في الحصول على الطاقة النووية السلمية، لاسيما وأن فرنسا تعتبر بلداً رائداً في هذا المجال لأنها تعتمد بنسبة 60 في المائة على الطاقة النووية السلمية.

وهو ما تم خلال زيارة الرئيس الفرنسي السابق (نيكولا ساركوزي) للبحرين العام 2009 من التوقيع على اتفاق تعاون عسكري، وإعلان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية لأهداف سلمية، واتفاق قنصلي، واتفاق تعاون لتدريب الأطباء البحرينيين في فرنسا لمرحلة الاختصاص.

أحداث 2011

خلال الأحداث السياسية التي شهدتها البحرين مطلع العام 2011، عبرت الرئاسة الفرنسية وقتها في بيان رسمي لها أن البرنامج الإصلاحي الذي دشنه حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، يعتبر برنامجاً لنشر الديمقراطية في بلده، وهو بدأ منذ العام 2002، حيث أكد البيان الفرنسي أن هذا البرنامج يسبق بسنوات عديدة الربيع العربي.

ويرى المحللون أن هذا البيان رصد الموقف الفرنسي الرسمي المؤيد لكافة الإجراءات والتدابير الأمنية التي اتخذتها السلطات الرسمية في مملكة البحرين منذ اندلاع الأحداث مطلع العام 2011. كما رفضت الرئاسة الفرنسية في بيانها أن يكون المشروع الإصلاحي وكافة الإجراءات التي اتخذت مجرد عملية (مصطنعة)، لاسيما وأن تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والذي قارب على نحو 40 عاماً، كان وافياً وكافياً للمسؤولين في الخارجية الفرنسية أن يكونوا على قرب من نتائج المشروع الإصلاحي وما حققه من أرضيات صلبة في كافة القطاعات والمجالات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو ما يتلاءم مع المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية بهذا الشأن، ومنها ما يتعلق بحقوق وحريات الإنسان.

وخلال تتابع التدابير الأمنية التي اتخذتها مملكة البحرين، فقد كانت فرنسا على مقربة من كافة هذه الإجراءات، حيث رحبت فرنسا برفع حالة السلامة الوطنية في الأول من يونيو عام 2011، كما أيّدت تشكيل لجنة تقصي الحقائق والتي ضمت خبراء دوليين.

وذكر الرئيس الفرنسي حينها في كلمته المشهورة أمام قصر الإليزيه مخاطباً ولي العهد البحريني أثناء زيارته لباريس «نحن ندعم الانفتاح الذي تدافعون عنه»، واصفاً الأسابيع التي مرت أثناء الأحداث السياسية في البحرين بأنها «أسابيع صعبة»، وقال الرئيس الفرنسي «في البحرين أعربنا عن وجهة نظرنا مع استمرار ثقتنا بالملك وولي العهد لتجاوز هذا الفترة من التوتر والتمسك بالتزامهما إجراء الحوار».

التبادل التجاري

بلغ حجم التبادل التجاري بين مملكة البحرين وجمهورية فرنسا خلال العام 2011 نحو 350 مليون يورو (436.6 مليون دولار)، بزيادة بلغت نسبتها 17 في المائة مقارنة بنفس الفترة من العام 2010 منها حوالي 250 مليون يورو صادرات فرنسية للبحرين و100 مليون يورو وارداتها من المملكة.

من جهة أخرى، بلغ عدد الشركات الفرنسية المُسجلة في البحرين حتى الآن نحو 50 شركة تتنوع ما بين تجارة التجزئة، الفندقة، الصناعة، الاتصالات، الماء والطاقة، الصيرفة، التأمين إلى جانب الخدمات الهندسية.

ويقول الملحق التجاري بالسفارة الفرنسية لدى المنامة فريديريك ميتيتال، «إن إجمالي الصادرات بين المملكة وفرنسا قد يزيد أو ينقص من عام لآخر، وذلك بحسب توقيت تسليم طلبيات طائرات إيرباص، إلا أنه أكد في الوقت ذاته أن الاتجاه العام يشير إلى زيادة بطيئة».

وفيما يتعلق بأولويات فرنسا تجاه المشروعات الاستثمارية خلال العام الجاري، قال ميتيتال: «تراعي فرنسا بحذر ضمان تدفق العديد من المشروعات الاستثمارية في مختلف القطاعات». وأضاف: «سنستمر في الترويج لمشروع إدارة الأعمال بالمفهوم الفرنسي، وذلك بالتعاون مع نادي الأعمال الفرنسي البحريني»، موضحاً في الوقت ذاته، أن السفارة الفرنسية في البحرين تدرس تنظيم ندوة خلال نوفمبر المقبل حول التخطيط الحضري بمشاركة شركات فرنسية.

وفيما يختص بالمجال التشريعي، أكد الملحق التجاري أن رفع الحظر المفروض على لحوم الأبقار الفرنسية، من أبرز الأولويات، وذلك بعد قيام بعض دول مجلس التعاون الخليجي بإلغائه.

وحول مستقبل العلاقات الثنائية بين البحرين وفرنسا، أكد أن العلاقات تتجه نحو الأفضل، موضحاً أن الاقتصاد البحريني بدأ يتحسن بشكل ملحوظ ومتواصل، بعد الأحداث التي شهدها خلال العام الماضي وخصوصاً في القطاعات التي تأثرت بصورة أكبر كقطاعي التجزئة والخدمات، بينما ستستمر القطاعات الأخرى في التوسع.

وحول توقعاته بدخول المزيد من الشركات الفرنسية إلى المملكة خلال الفترة المقبلة، قال ميتيتال: «نحن نتابع عمل العديد من المشروعات في مختلف القطاعات». وأكد وجود مشروعات تم تنفيذها حالياً وهي في مرحلة التشغيل أبرزها مشروع في مجال صناعة الألمنيوم وهو مشروع مشترك بين مجموعة (امريس) الفرنسية واستثمارات الزياني بهدف إنتاج أوكسيد الألمنيوم، إلى جانب مشروع آخر يتبع شركة (كنيم) الفرنسية والذي يتعلق بمعالجة النفايات المنزلية، موضحاً أن العلاقات التجارية بين البحرين وفرنسا ستشهد تطوراً ملحوظاً خلال الفترة المقبلة.

الجدير بالذكر أن البحرين ترتبط مع فرنسا بعدد من الاتفاقات الاقتصادية أبرزها اتفاق منع الازدواج الضريبي الذي تم إبرامه العام 1996. وتشير المعلومات إلى أن حجم التبادل التجاري بين البحرين وفرنسا شهد نمواً كبيراً يعادل 384 في المائة خلال النصف الأول من العام الماضي ليصل إلى 188 مليون يورو (91 مليون دينار) مقارنة بـ 49 مليون يورو (23.7 مليون دينار) في الفترة نفسها من العام الأسبق.

مجلس الأعمال

ولقد جاء تدشين مجلس الأعمال الفرنسي البحريني في العام 2009 ومقره باريس ليصبح محطة استثمارية داعمه لنمو العلاقات التجارية بين البلدين. ويأتي إنشاء هذا المجلس من قناعة فرنسا باعتبار أن البحرين شريكاً استراتيجياً بفضل ما تتمتع به من ديناميكية ونمو اقتصادي هام، كما تنظر فرنسا للبحرين بأنها شريك هام بفضل العلاقات الاقتصادية التي استطاعت البحرين إقامتها مع فرنسا وللاستثمارات المتبادلة بينهما.

كما إن التنوع الملحوظ في القطاعات التجارية والاقتصادية التي تعمل من خلالهما الشركات البحرينية والفرنسية يساهم بصورة كبيرة في دعم أنشطة مجلس الأعمال الفرنسي البحريني، حيث تتنوع الشركات الفرنسية التي تعمل في البحرين وفي قطاعات مختلفة والتي تطال مجالات الطاقة وصولاً إلى البنى التحتية ومن المصارف إلى الخدمات.

ولاتزال المنامة وحتى اليوم تشكّل المركز المالي الرائد في منطقة الخليج العربي، حيث تضم أكثر من 350 مصرفاً ومؤسسة مالية، وتتطلع فرنسا من خلال هذا الموقع الهام لمملكة البحرين أن تتابع أنشطتها الترويجية للشركات الفرنسية ومتابعة أعمالها في منطقة الخليج العربي من خلال البوابة الرئيسة له وهي البحرين.

ويهدف مجلس الأعمال إلى توسيع حجم التبادلات الاقتصادية والتجارية وترويج العلاقات الاقتصادية والتجارية بين فرنسا والبحرين حيث يقدم لأعضائه فرصاً للتبادلات واللقاءات الضرورية لتوطيد هذه العلاقات.

اللغة الفرنسية

دعمت فرنسا تدريس لغتها في جميع قارات العالم، وكانت مملكة البحرين الدولة السبّاقة للحصول على هذا الدعم لقناعة المسؤولين في قطاع التربية والتعليم من أن اللغة الفرنسية تساهم في فتح آفاق الدراسة الجامعية للطلبة، وتمكنهم من الحصول على القبول في الجامعات الفرنسية أو جامعات الدول التي تتحدّث باللغة الفرنسية، إلى جانب أنها تفتح المجال أمامهم للاطلاع عن قرب على الثقافة الفرنسية والمستجدات العلمية في كلّ مجال.

وتطبق وزارة التربية والتعليم مشروعاً لتدريس اللغة الفرنسية في عدد من المدارس الحكومية الإعدادية. وبعد أن أثبت نجاح هذا المشروع فإن وزارة التربية تقوم بشكل دوري بتعميم تطبيق المشروع على مدارس أخرى متنوعة في المملكة.

ويصف وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي أن تدريس اللغة الفرنسية كلغة أجنبية ثانية يعتبر عاملاً معززاً لانفتاح مملكة البحرين على العالم وإكسابها سمعة دولية كبلد للتعايش السلمي بين الجميع، مشيراً إلى سعي الوزارة إلى التوسع في تعميم تدريس هذه اللغة في بقية المدارس الإعدادية، إلى جانب تدريب معلمي هذه المادة على استراتيجيات التدريس الحديثة وتوفير المواد التعليمية المساندة، لتحقيق أفضل تحصيل أكاديمي للطلبة والارتقاء بأداء الوزارة بما يمكنها من تحقيق التميز المنشود.

وعن هذا المشروع، يقول المستشار الثقافي بالسفارة الفرنسية لدى البحرين ميشال نيتو «إن الخبراء يتابعون عن كثب الخطوات التي تقوم بها وزارة التربية والتعليم لتدريس اللغة الفرنسية في المرحلة الإعدادية باعتبارها تجربة رائدة في الشرق الأوسط».

كما لا يقتصر التعاون في المجالات التعليمية والتربوية على هذا الحد، حيث تقوم حكومة البحرين بالتنسيق مع المختصين في الجمهورية الفرنسية بإيفاد عشرات الطلبة في التعليم المدرسي والجامعي لقضاء عدة أيام في المعاهد والجامعات والتقنيات المتخصصة الفرنسية.

فضلاً عن وجود مركز الدراسات الفرنسية بجامعة البحرين والذي يعد واحداً من أهم وأعرق المراكز التي أنشأتها الجامعة قبل سنوات عديدة، وأثمر عن تعاون وثيق مع بعضٍ من أهم الجامعات الفرنسية والمعاهد المرموقة.

البحرين تستثمر في فرنسا

وتشكل فرنسا محطة جاذبة للاستثمارات البحرينية، وتحتل فرنسا المرتبة الخامسة عالمياً في تصدير السلع والمرتبة الرابعة في تصدير الخدمات، وتتواجد أكثر من 30 ألف مؤسسة فرنسية خارج فرنسا. ونجحت فرنسا في احتلال المرتبة الثانية عالمياً والمرتبة الأولى أوروبياً في مجال الاستثمارات المباشرة الأجنبية خلال العام 2008، وبلغت قيمة الاستثمارات 117.5 مليار دولار، حيث تلت الولايات المتحدة الأمريكية مباشرةً التي بلغت قيمة استثماراتها 316.1 مليار دولار.

ويوجد في فرنسا أكثر من 23 ألف مؤسسة أجنبية تستقدم أكثر من 2.8 مليون موظف، منها 3800 مؤسسة أمريكية، و4500 مؤسسة ألمانية، وأكثر من 2300 مؤسسة بريطانية، ونفس العدد تقريباً من المؤسسات الهولندية و600 مؤسسة يابانية. وتحقق هذه المؤسسات الأجنبية في فرنسا أكثر من 40 في المائة من الصادرات الفرنسية، وأكثر من 20 في المائة من النفقات في مجال البحوث والتنمية.

ويعتبر السوق الفرنسي أحد الأسواق الديناميكية المتميزة على القارة الأوروبية، فهو خامس قوة اقتصادية على الصعيد العالمي وثاني قوة اقتصادية على الصعيد الأوروبي، ويبلغ عدد السكان في فرنسا حوالي 65 مليون نسمة، وعدد الشركات 3 ملايين شركة.

وفي فرنسا 40 شركة بين الشركات الـ 500 الأول في العالم، وهي بهذا العدد تتفوق على كل من ألمانيا (39 شركة) وبريطانيا (26 شركة). وتستقبل باريس (فرنسا) بعد طوكيو (اليابان) وقبل بكين (الصين) ونيويورك (الولايات المتحدة)، وأكبر عدد من المقرات العامة لأكبر الشركات الـ 500 حول العالم. ويزور فرنسا سنوياً حوالي 80 مليون سائح.

وجميع هذه العوامل تدفع المستثمرين البحرينيين إلى النظر بجدية نحو واقع الاستثمارات في فرنسا، كما إن الإحصائيات الأخيرة وضعت فرنسا في المرتبة الثانية أوروبياً من حيث عدد مشاريع المؤسسات المنشئة لفرص عمل، كما إن الشركات الأجنبية خلال العام 2008 فقط اتخذت 640 قراراً استثمارياً لبدء مشاريعها في فرنسا بمبالغ فاقت المليارات من الدولارات.