^ حمل الرئيس أحمد بن بلّه سنواته التسعة والتسعين المليئة كفاحاً وشجاعة واستقامة وعروبة وإسلاماً، ورحل بهدوء بعد أن ودع أعز رفاق السلاح في الثورة الجزائرية، وأحب رفاق النضال في الأمة العربية. أحب ألقابه إليه -وهي الكثيرة- كانت عندما يصفه المواطن العربي برفيق جمال عبدالناصر.. ولا أنسى كيف طفرت دمعة من عينيه خلال زيارته التاريخية للبنان عام 1997 لدى هجوم مواطن بيروتي في تلة عائشة بكار ليقبله قائلاً: نحن نشم فيك رائحة جمال عبدالناصر. حكاية هذا المقاتل والقائد والرئيس والرمز، تحتاج بالطبع إلى مؤلفات ومجلدات، منذ أن شارك في إطلاق الرصاصة الأولى لثورة شعبه في الفاتح من نوفمبر 1954، إلى وقوعه مع رفاقه الأربعة في أسر المستعمر الفرنسي الذي اختطف طائرة كانت تنقلهم من المغرب عام 1955. إلى قيادته، وهو الأسير، مفاوضات الاستقلال في أوائل الستينيات من القرن الماضي، إلى عودته لبلاده رئيساً، ليلاقيه استقبال شعبي عز نظيره، لم يضاهه أثراً في نفسه سوى استقبال الشعب اللبناني له حين حل ضيفاً على المنتدى القومي العربي في احتفالاته السنوية بذكرى ثورة يوليو الناصرية بعد مرور 45 عاماً عليها. توحد اللبنانيون حوله شعبياً ورسمياً. ففتح له الرئيس الراحل إلياس الهراوي قصر بعبدا واستقبله كرئيس حالي، وأصر عليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري تأجيل سفره أسبوعاً ليتسنى له الاحتفاء المميز به. وكانت دار الفتوى أول الدور المستقبلة له، وكانت الديمان مفتوحة القلب والعقل له، بعد أن استقبله سيد الديمان آنذاك على مائدته. وكان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى شديد الترحيب به، وكذلك الإمام الراحل السيد محمد حسين فضل الله الذي كان بن بلّه يكنّ له تقديراً عالياً. وحين أراد الرئيس سليم الحص أن يزور الرئيس بن بلّه في مقر اقامته، أصرّ الرئيس بن بلّه على زيارة الرئيس الحص في منزله وخارج البروتوكول لأن أمثال الحص لا يعاملون بالبروتوكول. كما لبّى يومها دعوات عديدة في بيروت وطرابلس وصيدا وبعلبك والمختارة وزحلة والنبي شيت وسعد نايل وبشري وبعبدات في المتن، والقليعات في كسروان، وبتخني في المتن الأعلى. وحرص على وضع أكاليل زهر على أضرحة شهداء قانا وصبرا وشاتيلا، كما على أضرحة المفتي حسن خالد والرئيس رشيد كرامي والزعيم معروف سعد، والزعيم كمال جنبلاط، والقائد الشهيد عباس الموسوي، وكان يقول لمرافقيه إثر كل زيارة لا تنسوا إنني من بلد المليون شهيد؛ بل ابن الشعب الذي أحياه شهداؤه. وخلال زيارته للأرز بدعوة من الشيخ الراحل قبلان عيسى الخوري، توقف في قرية بلّه قضاء بشري وقال لنا ضاحكا: الآن فهمت سر محبتي للبنان فأصل عائلتنا على ما يبدو من هذه القرية، ليقول جاداً بعد ذلك : كانت أخبار نصرة الشعب اللبناني لثورة الجزائر تصلنا ونحن في سجن الاستعمار، تماماً كما كانت أخبار تضامن اللبنانيين معي خلال فترة السجن تصلني خارقة صمتاً رهيباً من حولي. وطيلة إقامته مع زوجته الفاضلة الراحلة زهرة وابنته الغالية على قلبه مهدية، كان يتصدر حديثه دائماً موضوعان رئيسيان: ذكريات الثورة الجزائرية وذكريات علاقته بعبدالناصر، وهما في الحقيقة موضوع واحد. إلا أن ما كان يميز عقل الرئيس الكبير الراحل دائماً، هو أن الماضي لديه لم يكن سجناً؛ بل كان مدرسة تواكب اهتمامه المذهل بالمستقبل. ولم تكن تخلو كلمة له أو محاضرة أو خطاب، من حديث مستقبلي مدعوم بالأرقام والتحليلات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، خصوصاً لدى ترؤسه المنتدى الاجتماعي الاقتصادي العالمي الذي يضم في كل دورة من دوراته عشرات الآلاف من الناشطين والمناضلين والباحثين من كل أنحاء العالم. كان مسكوناً بنظرية تفوق موازين الإرادات على موازين القوى، مستنداً بالطبع إلى ثورة الجزائر التي بدأت ببضع بنادق لتهزم جيشاً إمبراطورياً عرمرماً، وكانت قضية فلسطين هاجسه الدائم، لا يرى تحريراً مكتملاً لبلاده إذا لم تتحرر فلسطين. كان بن بلّه صاحب رؤية وهمة في آن، فلم تحل سنوات عمره المديد مرة دون أن يتحرك في أي اتجاه مهما بعدت المسافات إذا كان تحركه هذا يخدم قضية يؤمن بها أو يجسّد فكرة يقتنع بصوابها. وفي آخر لقاء لي معه في منزله فيلا جولي في الجزائر، وبحضور مهدية، حدثته عن رغبتنا بعقد ملتقى دولي لنصرة الأسرى في سجون الاحتلال، تحمس بن بلّه وكأنه شاب في العشرينات... وقال: أنا معكم بالتأكيد، فأنا أعرف معنى الأسر في سجون الاحتلال. رحم الله أحمد بن بلّه وأبقاه رمزاً عربياً مضيئاً شامخاً في كل زمان ومكان. ^ عن «الأنوار» اللبنانية