جمعها - بديع المدني:
عالمنا في هذه الحلقة هو إمام ثقة وعالم جليل؛ حينما أتى أهل الكوفة إلى ابن عباس رضي الله عنه يستفتونه قال لهم: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟! وحينما جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة قال له: اذهب إلى سعيد فإنه أعلم بالحساب مني، وقال عنه علي بن المديني: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد.
إنه الإمام الحافظ المفسر العلم سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، الذي ولد سنة 88 من الهجرة ؛ عُرف بعلمه الواسع، وورعه حتى قيل أنه ضعُف بصره من كثرة البكاء في قيام الليل؛ فعن القاسم بن أيوب قال سمعت ابن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة (واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). وكان مشهوراً عنه رحمه الله حسن التوكل حيث أُثر عنه قوله: “اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك”.
كان ابن جبير من علماء التفسير فنقل عنه صاحب “حلية الأولياء” تفسيره لقول الله عز وجل (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال: “إذا عُمل في أرض بمعصية الله فاخرجوا منها” وقال في الآية الكريمة (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)، قال ابن جبير: “الصلاة في الجماعة”، وقال أيضاً في قوله تبارك وتعالى (أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ) قال الأيدي: “القوة في العمل، والبصر فيما هم فيه من أمر دينهم”.
وذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتابه “الزهد” أن سعيد بن جبير فسر قوله تعالى (يُرِيدُ الْإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) بأن الإنسان يقول سوف أتوب سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله، وفي قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.
ومن درر كلماته رحمه الله كان يقول: “إن الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله، والذكر طاعة لله فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يُطعه ليس بذاكر وإن أكثر التسبيح”. وقال أيضاً: “أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه عناء، وإياك وما يُعتذر منه فإنه لا يُعتذر من خير”. وسُئل سعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال إذاً ذهب علماؤهم.
تعرض سعيد بن جبير رحمه الله لمحنة عظيمة تمثلت في مواجهته لظلم وبطش الحجاج بن يوسف الثقفي، حيث دعا الناس لقتال الحجاج لجوره وتجبره وإماتته للصلاة واستذلاله للمسلمين “كما ورد في طبقات ابن سعد”، وبعد أن تمكن منه الحجاج قال له: لأقتلنك، قال سعيد: دعوني أصلي ركعتين قال الحجاج: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: “فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ” قال الذهبي: لما علم سعيد بن جبير فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يكترث وكان ذلك عام 95 للهجرة. ويُروى أن الحجاج بعد أن قتل سعيد بن جبير رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك، قال: قتلني بكل قتيل قتلة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة. وكان الحجاج قد مات بعده بفترة وجيزة وأثناء مرض الموت كان يُغشى عليه ثم يفيق وهو يردد: مالي ومالك يا سعيد بن جبير. رحم الله التابعي الجليل والعالم الزاهد سعيد بن جبير رحمةً واسعة وجزاه على ما قدم خير الجزاء.