أحمد بن محمد عسكر

نزل بنا شهر رمضان المعظَّم بعد طول فراق، وحلَّ ضيفاً كريماً بعد طول اشتياق. شهر أوجب الله صيامه على هذه الأمَّة، كما أوجبه على الأمم قبلها. فيه تفتح أبواب الجنَّة، لكثرة الأعمال الصَّالحة التَّي تشرع فيه، الموصلة إلى الجنَّة. وتغلَّق أبواب النَّار فيه؛ لقلَّة المعاصي التَّي تسبِّب دخولها. وتصفَّد فيه الشَّياطين، فلا تستطيع إغواء المسلمين وإغرائهم بالمعاصي، ولا تستطيع صرفهم عن الطَّاعات كما كانت تفعل في غير هذا الشَّهر. قال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) (إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنَّة وغلِّقت أبواب النَّار وصفِّدت الشَّياطين) أي: تغلُّ وتوثق. وخلوف فم الصَّائم فيه أطيب عند الله من ريح المسك كما أخبرالنَّبيُّ: (والَّذي نفس محمَّد بيده لخلوف فم الصَّائم أطيب عند الله من ريح المسك). وشهر رمضان سبب لمغفرة الذُّنوب وتكفير السَّيِّئات، (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه) متَّفق عليه، وفي صحيح مسلم: (الصَّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر). وثواب الصَّائم بلا حساب ولا يتقيَّد بعدد معين، فقد أضاف الله الجزء فيه إلى نفسه الكريمة فقال: (كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصَّوم فإنَّه لي وأنا أجزي به). وهو سبحانه أجود الأجودين، والعطيَّة بقدر معطيها، فيكون أجر الصَّائم عظيماً كثيراً بلا حساب.

اختص لنفسه بالصوم

في الحديث أنَّ الله اختصَّ لنفسه الصَّوم من بين سائر الأعمال؛ وذلك لشرفه ومحبته وظهور الإخلاص له سبحانه فيه فإنَّه سرٌّ بين العبد وربِّه، وفيه تربية للعبد على إخلاص الأعمال لله عزَّ وجل، فهو سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان له خالصاً، وهذا هو أحد شرطي قبول العمل، والآخر أن يكون العمل موافقاً لسنَّة النَّبيِّ، فبهما يُقْبَلُ العمل، وإلا كان مردوداً على صاحبه، والصَّوم جُنَّة وستر ووقاية للصَّائم من النَّار قال (صلى الله عليه وسلم): (والصِّيام جُنَّة يستجنُّ بها العبد من النَّار). وقال: (والصِّيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب). وللصَّائم فيه فرحتان: فرحة عند فطره بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصِّيام الَّذي هو من أفضل العبادات التَّي حرمها أناس غيره، ويفرح بما أباح الله له من الطَّعام والشَّراب والنِّكاح الَّذي كان محرَّماً عليه حال الصَّوم. والفرحة الثَّانية: يفرح عند لقاء ربِّه بصومه الَّذي يجد جزاءه عند الله تعالى موفَّراً كاملاً في وقت هو أحوج ما يكون إليه، والصَّوم يشفع لصاحبه يوم القيامه. قال النَّبيُّ: (الصِّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصِّيام: أي ربِّ منعته الطَّعام والشَّهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النَّوم باللَّيل فشفعني فيه، فيشفعان)، ويباعد الله وجه الصَّائم عن النَّار سبعين خريفاً بكل يوم صامه تقرُّباً إليه. قال الرسول: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النَّار سبعين خريفاً).

على الصائم والمجتمع

إن في الصِّيام فوائد تعود على الصَّائم والمجتمع، منها: أنَّ في الصِّيام حفْزاً للهمم على العبادة، فإقبال الصَّائم على الطَّاعات وترك المعاصي في رمضان وحال الصِّيام أكثر منه في غيره، وفيه ترقيق للقلوب، فيفطن أكثر النَّاس لما غفلوا عنه وقت الفطر من إخوانهم الفقراء والمحتاجين فيحسنوا إليهم. وفيه تهذيب للنُّفوس وتعويد لها على النِّظام، فالمرء في سائر الأيَّام التَّي يفطر فيها يأكل ويشرب ما شاء ومتَّى يشاء، بينما هو في الصَّوم ملتزم بأوقات محدَّدة، فيبدأ صيامه بطلوع الفجر وينتهي بغروب الشَّمس، وكذا دخول الشَّهر وخروجه، وصلواته وقرباته في نظام دقيق، تعوَّد فيه النَّفس على النِّظام وترتيب الأوقات، وفيه تعويد للنَّفس على الصَّبر على طاعة الله، وعن مصيته، وعلى أقداره، وفيه راحة للمعدة، فالمعدة بيت الدَّاء والحمية رأس كلِّ دواء، وفيه شعور بالمساواة بين المسلمين على مختلف طبقاتهم وأجناسهم، وفيه تقويم للأخلاق وتهذيب لها، إذ الصَّائم مطالب بحفظ لسانه وجوارحه من اللَّغو والسَّبِّ، قال النَّبيُّ: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إنِّي امرؤ صائم)، وقال: (من لم يدع قول الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وفيه تدريب وتمرين للمسلم على تحمُّل المسئولية، وهو مظهر من مظاهر الأمانة، وفيه ما يتحقَّق بالصِّيام من الإخاء والإيثار بين المسلمين بعضهم مع بعض، وزيادة ترابطهم وتواصلهم مع بعضهم. وفيه تذكُّر نعمة الله على العبد بالإفطار، فكيف يكون حاله لو أنَّ الله ألزمه بالصِّيام طيلة حياته، مثل ما يعرف المريض قيمة الصِّحة. فلولا الصِّيام ما عرف النَّاس قيمة الفطر.

هذه بعض فضائل هذا الشَّهر الكريم وفوائده. نسأل الله أن يجعلنا ممَّن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.