ما أجمل القاهرة في ليالي رمضان؛ تشعر فيها أنه شهر العبادة والعمل معاً، الجميع يعمل بلا نزق، والكل يجد ضالته في المكتبات والندوات والفعاليات الثقافية والمؤتمرات وكل ما له علاقة بالعلم والمعرفة..

القاهرة قاهرة بزحمتها فقط، أما الحياة فيها مريحة إذا استثمرها الإنسان في الاطلاع على تنوعها.. وأهم ما يجب أن تحرص عليه إذا زرت القاهرة ألا تقضي وقتك بالشقة، أو الفندق لأنك لن تشعر بالقاهرة، ولن تعرف تنوع القاهرة.. ستشعر بالضيق في البداية من زحمة القاهرة لكنك بعد أيام قلائل ستندمج في الزحمة وتكتشف أنها من خصائص القاهرة المقبولة، فهي مدينة لا تنام..

شاء لي الحظ أن أنزل في شقة ليس بها تلفاز، مما أعاد لي توازني النفسي بعيداً عن أخبار العرب، وجعلني أقضي جل وقتي في مراجعة حصاد النهار، لكن صاحبة الشقة أصرت على أن تؤنسني بتلفاز، لأنها تشعر بتأنيب الضمير أن تسكن سيدة وحدها في شقة خالية من أنيس العصر، لأنها اعتبرته عملاً غير إنساني؛ فبعثت لي جهازاً قديماً أبيض وأسود، وكان أجمل ما فيه أن قنوات الحرب غائبة عنه، وكل قنواته التي استطلعتها ما بين قنوات أطفال، وقنوات للتعليم والصحة، وبذلت جهداً غير يسير في البحث عن أي قناة يمنية تجعلني في بلادي أثناء تواجدي بالشقة، وبعد محاولات مضنية ظهرت قناة اليمن الأولى، وكانت مفاجأة سارة لي، فقد جلست أمام التلفاز أتلقى ما أشاهده بعين المحب التي تخفي المساوئ، وكنت أتخيل الأخبار واضحة وسليمة وأشعر أن المقابلات عميقة وثرية ومؤثرة وممتعة حتى وإن كانت ليست لها علاقة بمهارات الحوار الموضوعي.

أما برامج رمضان فأنا أستعد لتوزيع ما تبقى من وقتي لمشاهدة حلقات منها لأنها على ما يبدو من الإعلانات ستكون جيدة، وكيفما كانت سأشاهدها لأنني محتاجة نفسياً أن أعيش في بلادي كل يوم ولو ساعة برغم المرارة التي عانيتها وسأعانيها فيه..

هذا هو أول برنامج تابعته إلى آخره إنه برنامج “احسبوها صح” الذي يقدمه المذيع عبدالملك السماوي، عنوان جميل ليتهم يطبقونه في سياسة بلادي!!! شاهدت ثلاث حلقات كاملة من البرنامج، وكنت أثناء المشاهدة أتخيل وجه بلادي على خريطة العالم كيف هو؟، وكم نحتاج من الحب والوقت والجهد كي نظهر ملامح هذا الوجه بين الوجوه؟!! وكلما شرد بي فكري ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، أيقظني عبدالملك بتنبيهاته للمشاهدين بأن يوافوه بآرائهم عن البرنامج كيفما كانت، وكوني من المشاهدين أحببت أن أدلي برأيي حول البرنامج، وأتمنى أن يقتنع القائمون عليه أنني لا أريد إلا التطوير والنجاح لكل قنواتنا الفضائية، وبخاصة القنوات الرسمية لأنها مرآة الوطن في صحته ومرضه...

بالطبع فكرة البرنامج رائعة، والتخطيط له والمعلومات التي تذكر بها أسئلته يدل على مجهود كبير بذله معد البرنامج، كما لاحظت أن أفضل فقرة في البرنامج هي تلك التي تمس حياة الفقراء والمحتاجين في بيوتهم، لأنها تثير الخير في نفوس المشاهدين في هذا الشهر الفضيل وهي فقرة “زيارة البيوت” في المناطق المختلفة، ولكن وآآه من لكن التي تصاحب الأعمال الرسمية في بلادي!!! التنفيذ كان “مملاً ومتوتراً بل متشنجاً” بحسب تعبير المذيع نفسه، فمن خلال مشاهدتي للحلقات الثلاث الأولى وجدت المذيع متوتراً ومتضايقاً ومجهداً، ما جعل المشاهدين يشعرون أن هناك حرباً بين المذيع والمصورين والمخرجين، حتى بينه وبين الأجهزة التي أمامه الكراسي، والطاولات، وربما من أهم أسباب توتره شعوره “بالمحانكة” من خلال البطء الملاحظ في استجابة المسؤولين عن إدارة أجهزة الكمبيوتر وغياب الخلفية الصوتية المصاحبة لكلام المذيع، فقد كان المذيع يلقي السؤال أو المعلومة ولا تظهر على الشاشة إلا بعد فوران دم المذيع وصدور عبارات الضيق منه، ومطالبته بخلفية صوتية مناسبة فلا يحققون له ما يريد، فيقوم هو بتمثيل الخلفية الصوتية المرعبة بصوته بطريقة...

كما لاحظت أن هذا التوتر بين المذيع وطاقم التنفيذ جعل المذيع يشبه السجين الذي يحاول التخلص من سجنه بأي أسلوب حتى أنه ضاق ذرعاً بالطاولات التي أمامه..

وقد يكون من أسباب زيادة التوتر المتواجد بين طاقم العمل -إن جاز التعبير- غياب روح الفريق المتحاب في التنفيذ، وربما كانت صناعة هذا التوتر الزائد مقصودة من قبل المنفذين بسبب أسلوب خطاب المذيع وكلامه التهكمي الموجه إليهم وتدخله في مهامهم؛ فمرة ينتقد التصوير وأخرى الإخراج وثالثة الإضاءة حتى جعل المشاهدين يشعرون بأن الطاقم ينفذ البرنامج بطريقة تظهره فاشلاً نكايةً بالمذيع، وربما ما كان يحدث هو نتيجة ضعف في مهارات الأداء، أو تدهور في أجهزة الأداء..

بصراحة ما يحدث أثناء تنفيذ البرنامج ربما يثير حنق الكثير من المشاهدين، لكني لم أشعر بذلك الحنق لأنني أعلم علم اليقين أن كل ما نشاهده في قنواتنا هو انعكاس للواقع السياسي ولم نعد نتوخى مشاهدة الجمال تسير في بيوتنا، لذلك أشفقت على المذيع والطاقم معاً، وكنت أتابع ما يهدف إليه البرنامج، وأحكم على النيات الصالحة، ولا أحاكم التنفيذ، بل كنت أضحك من داخل قلبي من عصبية المذيع عبدالملك؛ حيث كان يجاهد نفسه كي لا تنكسر هيبته، ويجاهد استفزاز زملائه الذين يتحدثون أثناء بث البرنامج، كما يجاهد رداءة العرض والإمكانات الضعيفة، وضعف ثقافة من يقابلهم، وفي هذه المعركة فقد اتزانه مرات كثيرة، فكانت تخرج منه بعض الكلمات غير المناسبة التي ربما جرحت المستضافين كقوله لأحدهم “جيت بسرعة علشان الفلوس” في الحلقة الثالثة، بالإضافة لإيحائه بضرورة غش المتسابقين حتى يخرجوا بريالات تعينهم على مصاريف رمضان كما يصرح في كل لقاء بهم، وكأن الغش خير ينبغي التشجيع عليه في هذا البرنامج الخاص بالشهر الكريم، وسمعت عبارات أخرى فيها الكثير من القسوة على من وراء الكاميرات..

ومع ذلك فالبرنامج هادف، وربما كان سيصبح علامة بارزة في الإعلام اليمني لو حسب القائمون عليه عملية التنفيذ (صح)..

حقيقة على الرغم أنني لست متخصصة في تكنولوجيا الإعلام لأوصي بما يجب فعله من أجل التلفاز اليمني، لكنني أشعر بأهمية تجديد الأجهزة وعمل دورات إجبارية لكل كوادره كل في اختصاصه، واستثمار الإمكانات المتاحة ومهارات الكوادر الفنية بطريقة سليمة وعادلة، وتخصيص زيارات للمختصين فيه للاطلاع على الخبرات العالمية والعربية في مجال طرق التقديم للبرامج الجماهيرية والإخبارية وغيرها، أو حتى مطالبتهم بمشاهدة القنوات الفضائية الأخرى وعمل تقارير تقييمية لبرامجها، وأتمنى أن يتم ذلك قريباً حتى لا نجد التلفاز اليمني هو التلفاز الوحيد في العالم الذي يفضح أهله ولا يصلحهم أو حتى يجملهم، مثله مثل حركة المرور في شوارعنا، لا يجتاز الطريق فيها إلا المخالف والمجازف والفهلوي الذي يخترق النظام ويزيد الحياة تلوثاً، وما يقهرنا أننا مطالبون بالتصفيق لما يحدث...

د/ سعاد سالم السبع 1