شيء في أعينهم تراه ولكن لا تستطيع تعريفه، عنصر مؤثر يبدو فيهماً بوضوح لكن غالباً يتعذر عليك توصيفه، تغمرك الحيرة من أين جاؤوا بهذه الطاقة الوثّابة والاندفاع الاستثنائي؟! ولكن في ذات الوقت، تمتلئ إعجاباً لتك الإرادة الفولاذية التي امتلكوها. إنهم هؤلاء البشر الذين احترفوا تحطيم الاستحالة وركوب التحدّي. هؤلاء الذين تراهم على قمم الجبال الجليدية يتحدّون الموت، من أجل أن يصلوا لما لم يصل إليه أحد. وتراهم في الغابات يستفزّون وحوشها، وفي الصحارى يصارعون لظاها وقساوتها، من أجل أن يفعلوا ويجتازوا ما عجز الآخرون عن اجتيازه وفعله. يحققون أرقاماً قياسية ويجتازون عقباتٍ استثنائية، ليتوَّجوا أخيراً أبطالاً يهزمون الاستحالة.

إن الحقيقة والسر هنا يكمن في أعماق نفس كل إنسان. إنها الغريزة المجهولة والمطمورة في روح كل البشر، إنها غريزة التحدّي، أو تحطيم الاستحالة أو سمّها ما شئت، تلك التي أودعها الله في نفوس البشر قاطبة، ليتمكنوا من خلالها من إعمار الأرض وتطوير الحياة وتنمية الإنسان، ولكي يزدهروا ويرتقوا ويَتَحَدّوا شتى المصاعب التي تحول دون ذلك، ولكي يجتازوا كذلك مختلف العقبات في طريق تطورهم الإنساني. وما فعله ويفعله أبطال الأرقام القياسية ما هو إلاّ نوع وترجمة خاصة بهم لغريزة التحدّي في أعماقهم.

لطالما اختلف البشر في استجاباتهم لهذه الغريزة والموهبة الربانية، فبعضهم رضى بأن تُقبر داخله دون توظيف خارجي إلى أن ضاعت وتلاشت، والبعض الآخر استسلم أمام أول صعوبة في طريق تفعيلها وتخلّى بإرادته عنها، والبعض الثالث وظّفها لتألّقه ومجده الشخصي دون أن يمنح من خيرها للعالم والبشرية، وأخيرًا.. وهم الفئة الأقلّ والأندر، هم وحدهم من سخّرها في طريق نماء الإنسانية وتجديد الحياة وتطوير العالم، فقد فاض من داخلهم ذلك النهر العذب، وقد أبحروا فوق مجاريه متحدِّين جلّ الصعوبات، ومجابهين لواقع كان يُظَن استحالته على التغيير والتبديل، وقد نصروا به قضايا مأزومة وطالبوا بحقوق عسيرة ورفعوا معاناة عن كاهل بشر كانت عصية قبلهم على الرفع والتغيير.

إنها دعوة مقدّسة ونداء خالد يتجدد في أرواحنا في كل حين، فمتى نصغي إليه؟! ومتى نفسح لهذا الوهج طريقًا إلى قلوبنا وعقولنا، ليعبر منهما ويخرج إلى العلن، فنحن البشر كائنات متحدية إلى أبعد الحدود، وقادرة بفطرتها على تحطيم المستحيل، فقط علينا اكتشاف ذلك وتفعيل تلك القدرة في قنواتها التي خلقت من أجلها، وهي لهدف نماء العالم وتبديد معاناة الإنسان.

فلنشمّر عن سواعد العمل ما حيينا، سيما في أيامٍ كهذه حيث شهر رمضان، وهي فرص للتأمل واكتشاف الذات بعدد أيامه ولياليه، مستعينين بأنواره وبركاته لتستيقظ غريزة التحدّي داخلنا من سباتها الطويل، وتنهض ناشطة ساعية لاحتلال دورها في حياتنا وازدهارنا، وموقعها في عالمنا كعنصر إصلاح ونهوض وتجديد وتطوير.

أقوى من المستحيل هو الإنسان، ومتى ما أدرك هذه الحقيقة العظيمة، وسخّرها في تشييد مستوى حضاري جديد ومتقدم، ورفع بها وطوّر بني الإنسان، فإن الحياة عندها حتماً ستغدو شيئاً مختلفاً.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية