^ يعتقد كثيرون منَّا أن الكذب حرام إلا في السياسة، فلا يجوز للإنسان مادام ليس سياسياً أن يكذب، لكن في عالم السياسة تظل كل أنواع الكذب حلالاً زلالاً، خصوصاً لمن يعتقد بالنظرية الميكافيلية التي ترشح مفهوم (الغاية تبرر الوسيلة) منهجاً للحكم والعمل السياسي. الشعوب الصامتة تريد أن تصدق الساسة لكنها لا تستطيع ذلك، لأنها آمنت أن الكذب حبلهم الدائم، والذي يتعرى مع أول نور للحقيقة تظهر في أفق الواقع. السياسة أن تمارس دورك الإنساني في حفظ الحقوق وأن تتجنب الصراعات والمعارك التي من شأنها إيذاء البشر والإضرار بمصالحهم، لا أن تقوم بأسوأ الأدوار حين تمارس الكذب والتدليس من أجل أن تحافظ على مصالحك السياسية. الكذب شعار غالبية القوى السياسية في العالم، لكن هذا الكذب المفضوح يتجلى بأبشع صوره في وطننا العربي، لأنه وإن كان عملاً قبيحاً فإن أصحابنا لا يمارسونها بطريقة حرفية كما أنه يخلو من النُبل. الناس العاديون في أوطاننا العربية، مازالوا ضحايا هذا النوع من الكذب، ومع الأسف مازالوا يصدِّقون كل السياسيين، وكأنَّ جهاز «الفلترة» لديهم معطل أو أنه أصيب بمسخ . قبل اقتحام فضاءات الأنترنت وعوالم التواصل الاجتماعي لحياتنا كنَّا أكثر رشداً ووعياً من وقتنا الراهن، لكن اليوم وبعد أن أصبح لكل واحد منَّا حساباً خاصاً في تويتر وفيسبوك وغيرهما، أصبحت حياتنا مخترقة ومهلهلة، فلم نعد نميز بين الحقيقة والخيال، بين الصدق والكذب، بين الحق والباطل. بالأمس كنَّا أكثر حصانة وحصافة، أما اليوم فأصبحنا أقل مناعة في تقبل الأمراض السياسية بكافة أشكالها وأنواعها. لأن هذا الطرف السياسي يكذب، ويصدقه كل الناس، يكون لزاماً حتماً على الطرف المقابل أن يكذب بطريقة متوازية لإحداث نوع من التوازن في الكذب، وبهذا النسق الغبي من تفكيرنا الأعوج تخرج في الأثناء مخلوقات طفيلية تصدق الكذب مهما كان قوياً أو غليظاً، لأن جهاز مناعة الكذب أصبح تالفاً لديهم. نحن في أمس الحاجة إلى ساسة يَصْدِقون القول، فإن كانوا حكاماً فليصدقوا مع شعوبهم، وإن كانت قوى سياسية فلتصدق مع جماهيرها، إذ ليس هنالك من مُنجٍّ سوى الصدق، أما الكذب فحبله قصير وإن طال به الأمد والمدى. الكثير من السياسيين يخافون قول الصدق، مخافة أن يخسروا ناسهم وجماهيرهم، لكنهم لا يعلمون أن هذا الأمر يزيد الناس إصرار بعد تكشّف الكذب، وأنهم لم يجنوا من عملهم الخادع سوى السراب، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، أما الزبد فيذهب جفاء.