كتب - جعفر الديري:
حفلت أيام وليالي شهر رمضان، بأجوائها الروحانية، بعناية الأدباء والشعراء، واستلهموا كثيراً من معاني الشهر الفضيل في صور شعرية ومجازات وكنايات متعددة. ولم يتخلف أحد من شعراء العرب في عصور الأدب المختلفة عن أن يدلي بدلوه في هذا المجال. فوجدنا البعض يرحب بمقدم شهر رمضان، واصفاً تلهف الناس لمقدمه ضيفاً كريماً يحل على الرحب والسعة بينهم، وبين شاعر يتغنى ببركاته، حيث يحوّل الحياة وجهة أخرى، ويؤصّل في الناس عاداتهم الطيبة من تزاور وتراحم وصدق ومحبة، وبين آخرين يبدون أسفهم العظيم، لاستعداده للرحيل، بكلمات ملؤها الشجن والألم.
إيذان بكل جميل
لقد وجد الشعراء في هلال شهر رمضان، بشير خير ويمن وبركة، فما إن يظهر حتى يكون نوره إيذاناً بليال مبهجة وأوقات سعيدة. ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابه “أسواق الذهب”: “الصَّوْم حِرْمان مشْروع، وتأديب بالجُوع، وخُشوع لله وخُضُوع، لكلِّ فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهرُه العذاب، وباطنه الرحمة، يستثير الشفَقة، ويحضُّ على الصدَقة، يكسر الكبْر، ويعلِّم الصبْر، ويسنُّ خِلال البِر، حتى إذا جاع مَن ألِف الشبَع، وحرم المترَف أسباب المتَع، عرف الحرمان كيف يقَع، وكيف أَلَمه إذا لذع”.
في بلاد الغربة
وحتى لو كان الشاعر المسلم بعيداً عن أهله ووطنه، في بلاد الغربة، كالشاعر ابن حمديس الصقلي، فإن هلال شهر رمضان يثير في نفسه من الأحاسيس الصادقة الشيء الكثير. وفي ذلك يقول:
«قُلْتُ وَالنَّاسُ يَرْقُبُونَ هِلالاً يُشْبِهُ الصَّبَّ مِنْ نَحَافَةِ جِسْمِهْ
مَنْ يَكُنْ صَائِمًا فَذَا رَمَضَانٌ خَطَّ بِالنُّورِ لِلوَرَى أَوَّلَ اسْمِهْ”
ويقول الشاعر الأندلسي ابن الصباغ الجذامي:
«هَذا هِلالُ الصَّوْمِ مِنْ رَمَضَانِ بِالأُفـــــْقِ بَانَ فَلا تَكُنْ بِالوَانِي
وَافَاكَ ضَيْفًا فَالتَزِمْ تَعْظِيمَهُ وَاجْعَلْ قــــِرَاهُ قِرَاءَةَ القُــــــــرْآنِ
صُمْهُ وَصُنْهُ وَاغْتَنِمْ أَيَّامــــــَه وَاجْبُرْ ذِمَا الضُّعَفَاءِ بِالإِحْسَانِ”.
أما الشاعر محمد الأخضر الجزائري فيجد في شهر رمضان، فرصة لتذكر الأيام العظيمة التي عاشها المسلمون:
«امْلأِ الدُّنْيَا شُعَاعًا أَيُّهَا النُّورُ الحَبِيبْ
اسْكُبِ الأَنْوَارَ فِيهــــــَا مِــــــنْ بَعِيدٍ وَقَرِيبْ
ذَكِّرِ النــــــَّاسَ عُهـــــــــــُودًا هِيَ مِنْ خَيْرِ العُهُودْ
يـــــَوْمَ كَانَ الصَّوْمُ مَعْنًى لِلتَّسَامِي وَالصُّعُودْ
يَنْشُرُ الرَّحْمَةَ فِي الأَرْضِ عَلَـــــــى هَذَا الوُجُودْ”
الشهر المشرق
ولا يخفي الشاعر عبدالمنعم عبدالله في قصيدته: “أنا صائم”، سعادته العظيمة بشهر رمضان، وكيف أن كل شيء في الوجود يستبشر بمقدمه:
«نُورٌ يُطِلُّ عَلَى الوُجُودِ وَيُشْرِقُ كَمْ بَاتَتِ الدُّنْيَا لَهُ تَتَشَوَّقُ
تَرْنُو لِمَطْلَعــِهِ لِتَشْهــَدَ بــــــَدْرَهُ (رَمَضَانُ) إِنَّ هِلالَهُ يَتَأَلَّقُ
عِطْرُ الهُدَى مِنْهُ يَفُوحُ فَهَذِهِ أَنْسَامُهُ فِي كُلِّ وَادٍ تَعْبَقُ
كُلُّ الحَيــــَاةِ حَفِيَّـــةٌ بِقُدُومـــــــــــــِهِ وَالخَيْرُ فِيهِ عَلَى الوَرَى يَتَدَفَّقُ”
ويتحدث ابن دراج القسطلي، في لغة شعرية راقية عن شهر رمضان، مصوراً جماله ورقة شمائله:
«فَلَئِنْ غَنِمْتَ هُنَاكَ أَمْثَالَ الدُّمَى فهُنَا بُيُوتُ المِسْكِ فَاغْنَمْ وَانْتَهِبْ
تُحَفًا لِشَعْبَانٍ جــــَلا لَكَ وَجْهـــــُهُ ِ«وَضًا” مِنَ الوَرْدِ الَّذِي أَهْدَى رَجَبْ
فَاقْبَلْ هَدِيَّتَهُ فَقَدْ وَافَى بِهَا قَدْرًا إِلَى أَمَدِ الصِّيَامِ إِذَا وَجَبْ
وَاسْتَوْفِ بَهْجَتَهَا وَطِيبَ نَسِيمِهَا فَإِذَا دَنَا رَمَضَانُ فَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ”
نظرة فلسفية
أما الشاعر المصري محمد حسن إسماعيل، وكعادته في توليد المعاني، والباسها رداءً إنسانياً. فيقول:
«أَضَيْفٌ أَنْتَ حَلَّ عَلَى الأَنَامِ وَأَقْسَمَ أَنْ سُيحَيَّا بِالصِّيَامِ
قَطَعْتَ الدَّهْرَ جَوَّابًا وَفِيًّا يَعُودُ مَزَارُهُ فِي كُلِّ عَامِ
تُخَيِّمُ لا يَحُدُّ حِمَاكَ رُكْنٌ فَكُلُّ الأَرْضِ مَهْدٌ لِلْخِيَامِ
وَرُحْتَ تَسُنُّ لِلأَجْوَاءِ شَرْعًا مِنَ الإِحْسَانِ عُلْوِيَّ النِّظَامِ
بـــــِأَنَّ الجـــُوعَ حـــــِرْمَانٌ وَزُهْـــدٌ أَعَزُّ مِنَ الشَّرَابِ أَوِ الطَّعَامِ”.