محمد الجابري
ها هي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب، ها هي خلاصة رمضان، وزبدة رمضان، وتاج رمضان قد قدمت. فيا ترى كيف نستقبلها؟
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر الأواخر بعدة أعمال، ففي الصحيحين من حديث عائشة: “كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله” ولفظ لمسلم: “أحيا ليله وأيقظ أهله” ولها عند مسلم: “كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها”.
ولها في الصحيحين: “أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله”. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: “نهى رسول الله عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: وأيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.
فمن هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية:
1- أيقاظ أهله: وما ذاك إلا شفقة ورحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر.
2- إحياء الليل: فإنه إذا كان رمضان كان يقوم وينام، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه: “صمنا مع رسول الله في رمضان فلم يقم بنا شيئاً منه حتى بقي سبع ليال، فقام بنا السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل، ثم كانت التي تليها... حتى كانت الثالثة فجمع أهله واجتمع الناس فقام حتى خشينا الفلاح. فقلت: وما الفلاح؟ قال: السحور”.
3- شد المئزر: والمراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري وغيره.
4- الاعتكاف: وهو لزوم المسجد للعبادة وتفريغ القلب للتفكر والاعتبار.
5- الوصال: وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل شيئاً أبداً لمدة أيام وهذا من خصائصه. ففي الصحيحين من حديث أبن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم، فقيل: إنك تواصل، فقال: “إني لست مثلكم إني أُطعم وأُسقى”، ولهما من حديث أبي هريرة “وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني” وعند مسلم من حديث أنس “أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: “لو تأخر لزدتكم” كالمنكل لهم. وفي لفظ عند مسلم “لو مد الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم..” فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال وهذا لا يكون إلا في آخر الشهر. وأيضاً شدة حرص الصحابة على الإقتداء به. وأيضاً أن المراد بالإطعام والسقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي “بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ونعيم الروح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن وكما قيل:-
لها أحاديث من ذكرك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به
ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها
روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولاسيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه، والرضا عنه، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت، ومحبوبة حفي به، معتنٍ بأمره، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب؟ فكيف بالحبيب الذي لا أجل منه وأعظم، ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن حبه منه أعظم تمكن، وهذا حاله مع حبيبه، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً؟ ولهذا قال “إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني” ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم، لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً”اهـ. كلام ابن القيم من الزاد.
ترى أيه الأحبة: لماذا يفعل رسول الله كل هذا؟
إنه يطلب تلك الليلة الزاهية، تلك الليلة البهية، ليلة القدر، ليلة نزول القرآن، ليلة خير من ألف شهر.
نعم إنها ليلة القدر: التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه (كما في البخاري من حديث أبي هريرة).
إنها ليلة القدر التي إن وفقت لقيامها كتب لك كأنك عبدت الله أكثر من (83) عاماً.
إنها ليلة القدر: ليلة عتق ومباهاة، وخدم ومناجاة، وقربة مصافاة.
وآه لنا إن فاتتنا هذه الليلة.
واحسرتاه إن فاتتنا ليلة القدر.
وكيف لا يتحسر من قد فاتته المغفرة، من فاته عبادة أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً، إن من تفوته فهو المحروم، وهو المطرود.
عند ابن ماجة، قال في صحيح الترغيب والترهيب: حسن “إن هذا الشهر قد حضركم فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم”.
إنها ليلة القدر التي كان رسولنا يحث الصحابة على التماسها حثاً شديداً.
أيه الأحبة:
إن إدراك ليلة القدر-والله- لهو أمر سهل -على من سهل الله عليه- وما ذاك ألا بأن نقوم العشر الأواخر كلها وبهذا نضمن إدراك ليلة القدر بإذن الله.
أيه الأحبة
إن قيام الليل هو دأب الصالحين وشعار المتقين وتاج الزاهدين، كم وردت فيه من آيات وأحاديث، وكم ذكرت فيه من فضائل، فكيف إذا كان في رمضان، وفي العشر الأواخر منه حيث ليلة القدر.
ماذا فاته من فاته قيام الليل، أما لكم همة تنافسون الحسن والفضيل وسفيان.
أما لكم همة كهمة التابعي أبي إدريس الخولاني حيث كان يقوم حتى تتورم قدماها ويقول: والله لننافسن أصحاب محمد على محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً.
يا أيه الراقد كم ترقد
قم يا حبيباً قد دنا الموعد
وخذ من الليل وساعاته
حظاً إذا هجع الرقد
من نام حتى ينقي ليله
لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى
قنطرة العرض لكم موعد
آه يا مسكين لو رأيت أقواماً تركوا لذيذ النوم ففازوا بليلة القدر فهم في قبورهم منعمون، وغداً بين الحور العين جذلين، وفي الجنان مخلدين.
آه لو رأيت من ترك قيام الليل، فهو في قبره ما بين حسرة ولوعة.
يا عبدالله اهجر فراشك، فإن الفرش غدا أمامك
اهجر فراشك جوف الليل وارم به
ففي القبور إذا فوافيتها فرش
ما شئت إن شئتها فرشاً مرقشة
أو رمضة فوقها السمومة الرقُشُ (الأفاعي)
هذا ينام قرير العين نائماً
وذا عليه سخين العين ينتهش
شتان بينهما وبين حالهما
هل يستوي الري في الأحشاء والعطش
قاموا ونمنا وكل في تقلبه
لنفسه جاهداً يسعى ويجتوش
ألئك الناس إن عد الكرام فهم
وإن ترد دبشاً فنحن ذا دبش
فيا عبدالله
إن أردت لحاق السادة، فاترك مخاللة الوسادة.
يا ثقيل النوم: أما تنبهت، الجنة فوقك تزخرف، والنار تحتك توقد، والقبر إلى جنبك يحفر، ولربما يكون الكفن قد جهز.
يا عبدالله:
أمامك الجواهر والدرر، أمامك ليلة القدر، فعلاما تضيع الأعمار في الطين والمدر.
يا طويل النوم
بادر قبل أن يفوتك (تتجافى جنوبهم) فتأتي يوم القيامة فلا تجد (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين).
فيا أخي: والله إن العمر كله قصير، فكيف بعشر ليال.
آلا تستحق ليلة القدر أن نضحي من أجلها بعشر ليال فقط.
غداً يا عبدالله عندما يوفى الناس أعمالهم تحمد قيامك وصيامك.
غداً يا عبدالله تفرح بتهجدك وصلاتك، حين يتحسر أهل الغفلة.
اللهم إنا نسأل أن تجعلنا من من يوفق لقيام ليلة القدر وأنت أكرم الأكرمين.