نصر الله المؤمنين المجاهدين في رمضان -شهر القرآن- في يوم بدر ?يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ? ذلك اليوم الذي فرق فيه الله بين الحق والباطل، بحوله وقوته، وتأييده ونصره، وتثبيته ورعايته، فقلتَ -وقولُك الحق-: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ?.
وكانت واقعة بدر الفيصلَ بين الحق والباطل، بين النور والظلمة، بين كتائب الخير وجحافل الطغيان، وكان ذلك في رمضان. شاءت إرادة الله أن يكون امتحانه للمؤمنين الصابرين صعباً عسيراً، لا يجتازه إلا كلُّ من طهرت نفسُه، وعمر قلبُه، وآمن بصدق الرسالة، وعاهَد رسولَه على حمل الأمانة، وكان يوم الامتحان يوم بدر في رمضان.
وشاءت قدرة الله أن يكون الامتحان جهادين: جهاداً في سبيله، وجهاداً ضد النفس. وكان الامتحان أقوى ما يكون، والنصر أكبرَ ما يكون النصر؛ لعلمه بصدق النوايا، وطهارة النفوس، ومضاء العزيمة، فانتصر المسلمون بتأييد المولى في رمضان؛ لأن النصر من عنده.
لقد ألهمتَ نبيَّك ورسولك -تحقيقاً لإرادتك، وتنفيذاً لمشيئتك- أن تكون الواقعة في رمضان؛ كي يرد اعتبارَ المسلمين المهاجرين، الذين اشتروا رضاءك، وآمنوا بدعوة نبيِّك، وتركوا أملاكهم وأمتعتهم، وخرجوا من ديارهم طائعين؛ فكانت هذه الواقعة ردّاً على قُوى الشر الباغية، التي لا تجد مَن يَردَعها أو يَقبُرها، وكان ذلك في واقعة بدر، في رمضان.
ففي ليلة بدر، ألهمت محمداً “صلى الله عليه وسلم” نبيَّك ورسولك، بما سيحدث، كان يضع يده على الأرض قائلاً: “هذا مصرع فلان -من المشركين- إن شاء الله غداً”، ثم يضع يده على جزء ثانٍ من الأرض قائلاً: “هذا مصرع فلان، إن شاء الله غداً”، ثم يضع يده على جزء آخر من الأرض ويقول: “وهذا مصرع فلان، إن شاء الله غداً”.
فبعزَّتك وجلالِك -يا مَن بعثته بالحق شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً- ما أخطؤوا تلك الحدودَ، ولا جاوَزوا تلك المواضع، بل جعلوا يصرعون عليها، واحداً بعد واحد، بل شيطاناً بعد شيطان، وألقوا في حفرتهم، وأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم يناديهم بأسمائهم، ويقول لهم: “هل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؛ فإني وجدت ما وعدني ربي حقّاً؟”، فقال له بعض صحابته: “أتكلم أجساداً لا أرواح فيها؟”، فأجاب: “ما أنت بأسمعَ منهم، لكنهم لا يستطيعون أن يردُّوا علي”، وصدق تنزيلك المجيد: ?وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى?.
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان، وكانت قريش بخيلها وخُيَلائها، وشبابها ورجالها، وسلاحها وعَتادها، وزهوها وكبريائها، وفي ألف من عددها: منهم شاكي السلاح، كامل العدة، وخرج محمد -عبدك ورسولك- في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط، ينقصهم السلاح والعتاد، لكن الإيمان يملأ قلوبهم، والمضاء يغمر عزيمتهم، ورغم قلة عدد جندك المسلمين، فقد غلَبوا بإذنك الكثرة الكافرين، وصدق قولك -جل شأنك-: “كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”.
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان؛ فظهرت القيم والمبادئ، وعُرِفت -يا رب- معادن الرجال المخلصين لمبادئ دينهم، وتعاليم نبيهم صلى الله عليه وسلم الذائدين عنها، الفانين في سبيلها، الراغبين فيما هو أغلى من الدنيا، وأبقى من أيامها، الآملين فيما عند الله، وما عند الله خير وأبقى.
كان عمير بن الحمام -رضي الله عنه- على مقربة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه قبيل القتال يحفز أصحابه، ويحرضهم على القتال، سمعه يقول: “قوموا إلى جنةٍ عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين، والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة”، فقال عمير: “بخ بخ!”، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من أهلها))، فأخرج عمير تمرات، وجعل يأكل منها استعانة بها على الجهاد، ثم قال -وكأنما يحدث نفسه-: “أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟”، ثم رمى التمرات من يده، وقال: “والله لئن بقيت حتى آكلها إنها لحياة طويلة”، وأخذ سيفه وخرج، فقاتل القوم حتى سقط شهيداً؛ فكان من أهلها.
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان، فماذا كانت النتيجة؟
لقد فتحتَ -يا رب- عليهم أبوابَ رحمتك، وأسبغتَ عليهم جزيل نعمتك، وكان هذا اليوم فتحاً مبيناً، رجعوا بالنصر والغنيمة، والأجر والمثوبة” ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً”.
لقد كنت مع جندك المسلمين، المجاهدين الصابرين -في رمضان- يدُك فوق أيديهم، فبينت -جلَّت قدرتك- الحدَّ الفاصل بين الكَذَبة الأدعياء، المتفاخرين بالباطل، المجتمعين على الإثم، وبين المؤمنين بربهم ودينهم، الواثقين بنصر خالقهم، الموقنين بأن الله معهم: يوفقهم، ويدافع عنهم، ويبطش بعدوهم، قلتَ -وقولك الحق-: “ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.
إلهي، يا واهب النصر، ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه العاشر من رمضان بيوم بدر، يوم الفرقان! حين عَرَف القوم ربَّهم، وتمسكوا بكتابك، وهَدْي نبيك صلى الله عليه وسلم وارتفعت أصواتهم تجلجل، وهم يعبرون القناة، مهللين مكبرين: “الله أكبر... الله أكبر”، تماماً كما فعل المسلمون الأوائل يوم بدر، ومنحتنا يا رب النصر في رمضان؛ لأنك قلت -وأنت أصدق القائلين-: “وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”.
ما أشبه اليوم بالبارحة! وما أحوجنا إلى أن نتذكر ولا نبتعد فنضل! ما أحوجنا إلى طاعتك، والاعتراف بهباتك وجزيل عطاياك! ما أحوجنا إلى قراءة تاريخ ديننا الإسلامي الحنيف! ما أحوجنا أن نتذكر أيام جهادنا، أيام إسلامنا، أيام نصرنا! ما أحوجنا أن نتبصَّر ونتذكر، ونخلص النية في الاقتداء بأهل بدر: في الثقة، والإيمان، والوفاء؛ ليكون لنا كما كان لهم يوم الفرقان: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”.
أحمد جمال العمري