منـــذ عـــــــام 2008 والاقتصاد العالمي يقع تحت تأثير أزمة الرهن العقاري الأمريكي إلى درجة أنَّ مشكلات القطاع المصرفي والتوقعات المتغيرة، بشأن المخاطر قلَّصت فرص الإقراض.
وبينما تجاهد دول منطقة اليورو، من أجل معالجة آثار الوحدة النقدية، التي لم تنجح في تحقيق أهدافها، هناك رغبات تتزايد داخل القطاعات المصرفية والاستثمارية الأوروبية، تستهدف تقليص الاهتمام بالاستثمار في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي التوَّاقة إلى رؤوس الأموال.
وفي وقت تواجه حكومات منطقة اليورو عجوزات مالية هائلة، يتم تشجيع البنوك والمؤسسات الاستثمارية داخل المنطقة على شراء السندات الحكومية الوطنية. وهذا يعني أنَّ أنواعاً أخرى من الأصول “مثل الأصول الخارجية” يتم بيعها من أجل تمويل مشتريات السندات، ما يعني أنه من المتوقع أنَّ المشتريات القادمة للأصول الخارجية ستكون أقل من حجمها في الماضي، لأنَّ الاستثمارات باتت تركز على الداخل أكثر من الخارج.
يضاف إلى ما سبق حقيقة أنَّ بنوك منطقة اليورو تتعرض لضغوطات تدفعها نحو تحسين جودة حساباتها السنوية. وفي مواجهة الحاجة إلى تحسين معايير كفاية رأس المال، هذا إلى جانب ظهور مشكلات في مجال زيادة رؤوس الأموال، تجد البنوك في منطقة اليورو أنها مجبرة على تقليص ميزانياتها العمومية -هذا علاوة على أنَّ الضغوطات السياسية تلزمها بإلقاء أعباء الميزانيات العمومية على الإقراض الخارجي أكثر من الداخلي.
ففي بيئة تتزايد فيها الحاجة إلى تفادي المخاطر ليس من المستغرب أنْ تزداد التوجهات نحو التركيز على الاستثمار في الداخل بدلاً من الخارج. وعلى سبيل المثال يلاحظ أنَّ البنوك المركزية في آسيا زادت من شراء السندات المحلية الآسيوية، ذلك على حساب سندات منطقة اليورو أو الأسواق الأخرى، حيث إن السياسة تلعب دوراً متزايد الأهمية في تشغيل أسواق المال، من المتوقع تراجع أهمية الفهم الدولي للمخاطر الاستثمارية. إذ إن المعروف بأن المجال الاقتصادي يكتسب بعداً عالمياً، بينما تميل السياسة إلى التمسك بالأبعاد المحلية.
وفي ظلِّ هذه الأجواء تعني حرب رؤوس الأموال القادمة تراجعاً في حجم الاستثمارات، التي تتدفق على أسواق دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات القادمة. وهذه ليست حالة مؤقتة في عملية تدفق رؤوس الأموال، وإنما يحتمل أنْ تصبح ظاهرة دائمة.
وإذا صحت هذه التوقعات فإنَّ آثارها ستكون كبيرة على اقتصادات مجلس التعاون الخليجي ومسيرتها التنموية. إن أوروبا على سبيل المثال، ظلت في موقع أكبر أو ثاني أكبر مصدر لتدفق رؤوس الأموال الدولية إلى باقي أرجاء العالم، وأن دور البنوك الأوربية في دول مجلس التعاون الخليجي بات راسخاً منذ أمد طويل.
وإذا رغبت دول مجلس التعاون الخليجي الاستمرار في الاستثمار، فإنَّ عليها أنْ تركز على التمويل الإقليمي أكثر مما فعلت حتى الآن. وهذا يستدعي المزيد من تطوير المؤسسات المالية المحلية، وأن تراجع تدفق رؤوس الأموال الدولية لن يستلزم التركيز أكثر على استغلال رؤوس الأموال المحلية المصدر فحسب، ولكن الاستعانة بالخبرة في هندسة التمويل المقدمة حالياً من قبل المؤسسات الدولية كذلك.
ومن أجل مضاعفة فعالية رؤوس الأموال في الدول الأقل تأثراً بالعولمة، سيكون من الأنفع لدول مجلس التعاون الخليجي أن ترسم أهدافاً للقطاع المصرفي تمتد إلى النطاق الإقليمي أكثر من المحلي.
إضافة إلى آثار أزمة الرهن العقاري الأمريكية، هناك تبعات الالتزام بمعايير الحفاظ على البيئة الواجب أخذها في الاعتبار، ولأن بعض الموارد الطبيعية في العالم تتعرض للمزيد من الاستنزاف، فإنَّ العديد من الدول تجد نفسها مجبرة على اتباع أساليب تزيد من فعالية الموارد الطبيعية وسبل المحافظة عليها، مثل المياه والنفط والغاز والأسمدة وغيرها.
ومن المحتمل أنَّ التزامن بين أزمة الرهن العقاري وبين ضرورة المحافظة على الموارد الطبيعية، يتسبب في نشوب حرب من أجل اجتذاب رؤوس الأموال. وضمن مثل هذه الحرب ستحرص الدول على الحفاظ على ما لديها من رؤوس أموال إضافة إلى توجيه اهتمامات بنوكها نحو فرص الاستثمار الداخلي بدلاً من الخارجي.
إنَّ التحولات الاقتصادية العالمية التي نشهدها حالياً عبارة عن نقطة انطلاق للابتعاد عن نمط رأس المال المعولم، الذي شهدناه خلال العقدين الماضيين. وفي ظلِّ هذه الأجواء يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أنْ تستجيب بسرعة لهذه التحديات إذا ما أرادت أن تستمر في رفع المستوى المعيشي لسكانها.
إنَّ الأنظمة المالية بدول مجلس التعاون الخليجي يجب أنْ ترتقي إلى مستوى التحديات التي تفرضها التحولات العالمية، وذلك كي تتمكن من الاستفادة من الفرص الجديدة التي تخلقها.