بديع المدني:
مازلنا مع السلسلة الذهبية من أئمة السلف الصالح، وشخصية هذه الحلقة هو إمام دار الهجرة، قال الإمام الذهبي: قد كان هذا الإمام من الكبراء والسادة العلماء، وكانوا يزدحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكانت السلاطين تهابه ويستمعون له، وكان يقول: لا ونعم، ولا يقال له: من أين قلت هذا؟.
كان كثير التعظيم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أن يحدث اغتسل وتطيب وسرح لحيته وجلس على منصة، وكان قوي الحجة شديد على أهل الأهواء والبدعة. وكان لا يروي إلا عن ثقة، ولا يروي إلا عمن عرف بالرواية وأنه من أهل الحديث، وقال: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به، وأصح الأسانيد عند المحدثين: مالك عن نافع عن ابن عمر.
إنه الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة، المولود سنة (93هـ) طلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وعن عبدالله بن المبارك قال: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة. يعني: سريرة صالحة من حب الله عز وجل ومن الإخلاص، وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فـمالك النجم، وعن ابن عيينة قال: مالك عالم الحجاز وهو حجة زمانه، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان مهيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط.
ومن ورع الإمام مالك أنه كان يقول عن الفتوى: جنة العالم قول لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله. وعن الهيثم بن جميل قال: سمعت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنين وثلاثين منها: بـ(لا أدري). وكان يقول: إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه. وقال رحمه الله: إن حقاً على طالب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله، ولما قدم الخليفة المهدي إلى المدينة بعث إلى مالك فأتاه، فقال لولديه هارون وموسى: اسمعا منه، فقال: يا أمير المؤمنين العلم يُؤتى أهله، فقال: صدق مالك صيرا إليه.
وكان ناصراً للسنة محارباً للبدعة فكان يقول عن السنة: ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً”. سأله رجل: يا أبا عبدالله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه، وقال أبو طالب المكي: كان مالك رحمه الله أبعد الناس من مذاهب المتكلمين، قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكاً فقال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فسكت مالك حتى علاه الرحضاء -يعني: العرق- ثم قال: الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه. فناداه الرجل: يا أبا عبدالله! والله لقد سألت عنها أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.
كان مالك قد ضرب بالسياط واختلف في سبب ذلك والمشهور أنه بسبب قوله (ليس على مستكره طلاق، وهو أن طلاق المكره ليس بشيء؛ لأنه يقاس على ذلك أن بيعة المكره ليست بشيء، فلو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية)، فضُرب الإمام مالك بالسياط وحُمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك، فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس أقول: طلاق المكره ليس بشيء، فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه، أنزلوه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى إيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر فدعا بـمالك، فأمر بتجريده وضربه بالسياط وقيده حتى انخلعت كتفاه، يقول الذهبي فوالله مازال مالك بعد في رفعة وعلو فهذه ثمرة المحنة المحمودة، إنها ترفع العبد عند المؤمنين، ومن يرد الله به خيراً يصب منه
عمر الإمام مالك (89) سنة، ومات سنة (179هـ), قالوا: تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد ثم مات وكان ذلك صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة (179هـ)، رحم الله هذا الإمام الجليل رحمة واسعة وجزاه خير الجزاء على ما قدم.