كنا بالأمس في مجلس جدال حول النظرة السلبية، ومن يفسرون كل كلمة وتصرف بحسب أهوائهم وما تمليه عليه نفوسهم المريضة، ومن يراقبون الحركات والسكنات، ليقدموا سرداً تحليلياً مفصلاً للنوايا، تجعلهم يسيئون الظن بالآخرين.
المؤلم في تلك النظرة السلبية هي أن تتناقل الألسن كل شيء بمجرد السماع ثم النقل دون التثبت والتريث، وتناسى هولاء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)..
لماذا..؟؟؟ بعض الناس تتفنن في قراءة ما بين السطور لتسيء الظن بالآخرين، ثم يكون التفسير الخاطئ بالمرصاد، لكل من أصاب أو أخطأ.. كان جاداً أو مازحاً، تجد أن الأسئلة والتفسيرات تتزاحم في رؤوس بعضهم، فتسرح عقلهم في مذاهب وتأويلات وتوقعات، ثم الحكم على هذا وذاك من خلال غمامة الشك التي تلازم نفوسهم المريضة..
والسؤال لماذا الاستعجال بالحكم وبأحكام مجحفة بحق الآخرين بمجرد السماع، ولا ننتظر حتى يتبين لنا عكس ما توقعناه أو آمنا به، إنني لا أعلم ما الذي يخفيه وما يؤمن به من ينقلون الكلام، وما هدفهم من عملية النقل، أعتقد أن من يسيء الظن وينقل الكلام دون التثبت، لا يجلب لنفسه سوى الشقاء وعدم الراحة والطمأنينة في حياته وعلاقته بالآخرين..
لماذا غالبية الناس بمجرد حدوث آخر موقف من المواقف الحياتية اليومية مع شخص يحكمون عليه وينعتونه بأبشع الصفات وهو بريء منها، بالإضافة لتمرير مواقفه الأخرى، مما يتطلب إصدار احكام قد تصل إلى الفسق والفجور..
والشك قد يرجع الى طبيعة نفس الإنسان وضيق أفقه الفكري والثقافي، والتربية التي نشأ عليها، أو سوء الأصدقاء المحيطين به، فإذا كانت نظرتهم للآخرين يسودها الشك فمن الطبيعي أن يتأثر بهم، لأن بعضهم لا يمكنه انتزاع الشك من قلبه أو التعديل منه، فيلازمه سواءً في بيته مع زوجته، مع أبنائه، مع زملائه في المهنة، مع مديره، ومع أي شخص يقابله، لذا تجده يتحرى ويبالغ في التحري، مما يقوده إلى العزلة وإقامة علاقات غير موفقة، ونتاج ذلك لا يستطيع ولا يشعر بالمودة والحب تجاه الآخرين..
ومن أعظم الشكوك سوءاً تلك التي تدور في عقول أحد الزوجين باستمرار دون أسباب حقيقية ملموسة، ودون التثبت من الطرف الآخر، فينهش أمن واستقرار الأسرة وحياتهما المستقبلية، فيفقدان الطمأنينة والراحة النفسية، مما يجلب التخمينات والأوهام، فيعيشا في الشقاء الدائم وعدم الارتياح للآخر أوكلاهما، والأدهى من ذلك أن يستمر الشك في حياتهما فيصبح مرضاً مزمناً يلازمهما حتى ينتهي الأمر بالطلاق..
مسكين من يكلف نفسه ويحملها ما لا تطيق، بالشكوك التي ليست في محلها، وسوء الظن، فيحمل قلقاً نفسياً وذنوباً لا حصر لها، إضافةً إلى أنه يحمل مغبات الشك ونتائجه من خصام وغيبة في كثير من الأحيان، فضلاً عن انشغاله بتزكية نفسه وإصلاح أخطائه بالغير وبتصرفاتهم وأفعالهم..
من الطبيعي من خلال تعاملك مع الآخرين أن تتسلط عليك بعض الشكوك والأفكار السلبية تجاه الأشخاص وأنت غير متأكد منها، وهذا لا يعني التسليم بها أو تقبلها ونقلها مباشرة دون التأكد والتثبت، وقد ميزك الله بالبصيرة، ثم أحسن الظن دائماً وفي كل الأحوال، حتى يثبت لنا ما يغير ذلك، ولنا في سلفنا الصالح قدوة حسنة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً)، فالواجب حسن الظن ومحاولة إيجاد العذر، وأن نعالج أفكارنا الخاطئة، وعدم الاستمرار في التفسير السلبي للمواقف والأحداث وأخذ كل سلوك من الآخرين على أنه محمل شخصي..
الحل الأمثل يكمن في التغيير الداخلي من صفاء النية وترجمته خارجياً كماً وكيفاً، وهذا هو الحل الناجح لمواصلة الاتصال والتواصل بالمجتمع والعلاقات الجديدة.. كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم )..
ومضة :
حينما تصفو الأجواء التي تحيط بنا .. فإننا نرى كل شيء واضحاً أمامنا.. ولسنا بحاجة للبحث عن شيء يختفي وراء السحاب أو يتوارى خلف الكثبان البعيدة.. وهذا الجو الطبيعي للحياة فينعكس على رؤيتنا للعالم من منظار جميل.. فتصبح نفوسنا نقية من الغشاوة.. خالية من الغل والضغينة.. حينها نصبح.. لسنا مضطرين لفهم الأمور بخلاف ما توحي به .. ولا يعنينا البحث عما وراء الكلمات..
صالح الريمي